تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم الإمبراطور «طيباريوس قسطنطين» للإمبراطورية الرومانية الشرقية «البيزنطية»، الذى أوصى بالحكم من بعده لقائد جيوشه وزوج ابنته «موريس» كما أوصاه بالعدل والإنصاف فى حكمه. وقد تحدثنا عن حربه ضد الفرس، والثورة المِصرية التى قامت فى البلاد مع السنوات الأولى من بَدء حكمه.
«موريس» وحروبه ضد قبائل «السلاف» و«الآڤار»
بعد انتصار الإمبراطور «موريس» على الفرس، ثم مساعدته لملكهم ـ الذى أُطيح به ـ على استعادة عرشه، وجَّه «موريس» اهتمامه إلى فض النزاعات فى منطقة البَلقان من قِبل قبائل «السلاف» الذين نهبوا الوِلايات البيزنطية فى هذه المنطقة عشرات السنين، وعمِلوا على الاستقرار فيها بَدءًا من عام 580م.
أمّا قبائل الآڤار، فقد استولت على مدينة «سيميريوم» فى عام 582م مستخدمة من حصنها الاستراتيچى المهم قاعدةً لمهاجمة الحصون الأخرى المنتشرة على «نهر الدانوب» وغير المحصَّنة تحصينًا جيدًا. إلا أنه بحلول عام 586م، حاصر الآڤار «مدينة تسالونيكى» فى 586م. ومع عام 591م، أطلق «موريس» عدة حملات لوقف هجمات «السلاف» و«الآڤار». وبالفعل حقق انتصارًا عليهما فى المدة من 592-598م، ثم أُبرمت معاهدة مع الآڤار. إلا أن المدة من 599-602م شهِدت عودة السيطرة البيزنطية على الدانوب.
وفى الغرب، قام بتنظيم المناطق التابعة لسيطرة الإمبراطورية البيزنطية فى كل من إيطاليا وأفريقيا إلى وِلايات، وأقام عليها الحكام العسكريّون، وذلك حين أدرك أن القيادة المدنية لن تستطيع الدفاع عن البلاد، وهو ما كان يُعد آنذاك استثناءً بارزًا للفصل المعتاد بين القوى المدنية وتلك العسكرية. وقد أدى وجود هذه الوِلايات إلى وقف التقدم السريع «للومبارد» فى إيطاليا.
وفى عام 597م، دوَّن «موريس» وصيته الأخيرة واصفًا فيها أفكاره عن حكم الإمبراطورية حيث أوصى: أن يحكم ابنه الأكبر «ثيئودوسيوس» الشرق ويكون مقره القسطنطينية، فى حين يحكم ابنه الأصغر الغرب فى روما. إلا أن بعض المؤرخين ذكر أنه يريد للابن الأصغر أن يحكم الغرب من الإسكندرية، وقرطاچنة، وأنطاكية، إذ كان يهدُف دائمًا إلى توحيد الإمبراطورية، محاولًا اتباع نموذج «دِقلِديانوس» فى حكم الإمبراطورية، ولكن الموت لم يُمهله لتحقيق تلك الأهداف.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن الإمبراطور «موريس» ساعد على تحويل الإمبراطورية الرومانية التى تحطمت فى وقت متأخر إلى إمبراطورية بيزنطية جديدة ومنظمة كتلك التى كانت فى العصور الوسطى. إلا أن تلك الحملات العسكرية ضد الفرس، والسلاف، والآڤار، واللومبارد قد أفقدت الإمبراطورية ثرواتها ما جعل الضرائب ترتفع بنحو باهظ على الشعب، ما أدى إلى تفشى الغضب وعدم الرضا بين الجنود. ومع أوامر الإمبراطور «موريس» لجيوشه بقضاء الشتاء لحماية الدانوب، اندلعت ثورة الجنود وساروا إلى القسطنطينية تحت قيادة «فوكاس». وعند وصولهم القسطنطينية، انضم إليهم الشعب الذى يعانى من فداحة الضرائب، وأطاحوا بالإمبراطور «موريس» ليجلس على العرش بدلًا منه «فوكاس» الذى أمر بإعدام «موريس» وأبنائه الستة، الأمر الذى اعتُبر كارثة حلت بالإمبراطورية، وأدى إلى حرب مدمرة ضد الفرس تركت البلاد فى حالة عجز شديد على التصدى لأى غزو.
أمّا عن سياسة «موريس» الدينية، فقد كان متسامحًا نحو الأُرثوذكسيِّين مع أنه كان على المذهب المليكانىّ.
الإمبراطور «فوكاس» (602-610م)
لا يُعرف كثير عن حياة «فوكاس» الأولى. لكنه فى عام 600م، خدم فى حملات الإمبراطور «موريس» فى البَلقان. وقد كان عضوًا فى وفد بعث به الجيش فى ذلك العام إلى القسطنطينية لتقديم الشكاوى إلى الحكومة. وقد ذكر المؤرخون أن من الأحداث التى أدت إلى الإطاحة بالإمبراطور «موريس» أنه فى أثناء إحدى الحروب ضد الآڤار فى 598م، هُزم الروم وأُسر عدد كبير من جنودهم، وطلب الآڤار من الإمبراطور دينارًا عن رأس كل جندىّ لإخلاء سبيله، ولكن «موريس» رفض، فطلبوا نصف دينار فأبى إعطاءهم وأمر رئيسهم بقطع رؤوس جميع الأسرى! وتسبب هذا فى ذعر بين الجنود. ومع حلول عام 602م، وأمْر «موريس» ببقاء الجنود على الجانب الشَمالى من الدانوب، قامت ثورة أدت إلى مقتل «موريس» واعتلاء «فوكاس» العرش.
وقد قوبل حكم «فوكاس» فى بدايته باحتفاء شديد إذ قام بتخفيض الضرائب الباهظة التى كانت فى عصر سابقه ما زاد من شعبيته. إلا أن عصره شهِد أيضًا بَدء انهيار الحدود التقليدية للإمبراطورية البيزنطية، فقد مهد نزوح الجيش من نهر الدانوب، فى 605م، الطريق إلى هجمات جديدة أدت إلى انتهاء الوجود البيزنطىّ فى البَلقان.
أمّا فى الشرق، فقد قام «خِسْرو» ملك الفرس بإعداد الحرب ضد الروم ـ متخذًا من قتل «موريس» صديقه الذى ساعده على استعادة عرشه حُجة ـ لكسر معاهدة السلام مع الروم وإعلان الحرب عليهم؛ وذلك ثأرًا لصديقه من «فوكاس» قاتله. وفى أثناء ذلك، كان «خِسْرو» قد استقبل أحد الأشخاص الذى ادعى «ثيئودسيوس» زورًا أنه الابن الأكبر للإمبراطور «موريس» وشريكه فى الحكم، فقرر «خِسْرو» تنظيم حفل تتويج لهذا المدعى ليكون إمبراطورًا، وكذلك طالب الإمبراطورية البيزنطية بقبوله، واستغل الصعوبات التى تواجهها قوات الجيش مقدِّمًا المساعدة إلى القائد «نرسيس» الثائر على الحكم.
وفى عام 608م، قام حاكم أفريقيا وابنه ـ وكلاهما يُدعى «هرقل» ـ بثورة ضد «فوكاس»، وكان رد «فوكاس» أنه أصدر سلسلة من الأحكام بالإعدام، كان من بينها على الإمبراطورة السابقة «قسطنطينة» وبناتها الثلاث، ما أدى إلى إرسال هرقل ابنَ أخيه «نيكتاس» لنزع مِصر من يد الروم، وإرسال ابنه تجاه «سيسيلى» و«قبرص».
استغل الفرس تلك الصراعات فأعدوا جيوشًا عظيمة، واستردوا من الروم عديدًا من الأقاليم منها أرمينيا والشام، وهزموا الروم هزيمة شديدة، وصارت المملكتان فى عداوة شديدة. أعد «فوكاس» جيشًا عظيمًا لقتال «خِسْرو»، ولكن جنود الحملة كانوا يكِنّون الكراهية للإمبراطور وساروا للقتال عن غير إرادتهم، فانتصر عليهم ملك الفرس وبددهم، فتشتتوا، وتقدم «خِسْرو» بجنوده حتى العاصمة القسطنطينية وحاصرها. فأرسل وُجهاء المدينة إلى الأمير «هرقل» والى بلاد أفريقيا ليُسرع إلى القسطنطينية ويخلصها من حصار أعدائها، ويتولى حكم البلاد بدلًا من «فوكاس». وما إن وصلت رسالتهم إلى «هرقل» حتى أرسل السفن والجنود بقيادة ابنه من أفريقيا. وما إن وصل خبر قدوم «هرقل» حتى أثار وُجهاء المدينة الشعب ضد «فوكاس»، وثارت الفتنة بينهم واشتدت حتى عمت سائر البلاد. وطالب الشعب بخلع «فوكاس»، ووضع «هرقل» مكانه.
قام «هرقل» بمحاولات لدخول المدينة، فى حين كان هناك حصار من وُجهاء المدينة على قصر «فوكاس» حتى قُبض عليه، وأحضروه إلى «هرقل». ويذكر مؤرخون أن «فوكاس» وقف أمام «هرقل» على متن إحدى السفن فى حين وقف الشعب على الشاطئ يطالب بموته، فأسلمه لهم، فقُتل هو وجميع إخوته وأصحابه كما فعل هو بالإمبراطور السابق. ثم أعلن الشعب «هرقل» إمبراطورًا للبلاد. إلا أن البعض يذكر أن «هرقل» دخل المدينة دون مقاومة تُذكر، وأنهم أحضروا «فوكاس» أمامه، فسأله: أهذه هى الطريقة التى تحكم بها البلاد، يا صُعلوك؟! فأجاب «فوكاس»: أوَكنتَ ستحكم بالطريقة التى هى أفضل؟! وهنا ثار غضب «هرقل»، فأمر بقطع رأسه فى الحال، وتشويه جسده، وساروا به فى العاصمة، ثم أحرقوه. وهكذا تولى «هرقل» حكم الإمبراطورية من بعد «فوكاس» فى عام 610م.
ويُذكر أنه فى أيام حكم «فوكاس» أرسل ملك الفرس جيوشه إلى الشام ومِصر، فقامت بتخريب الكنائس وحرق اثنتين منها فى بيت المقدس، وأخذ الجنود قطعة من الصليب المقدس، وأسروا بطريرك بيت المقدس، ولم تنج بلاد الشام من أيديهم إذ قتلوا ونهبوا وخرّبوا كل ما وجدوه فى طريقهم. وحين وصلوا إلى مِصر، ملأوا الأرض فسادًا، وكانت شدةٌ عظيمة، حتى إن أحد المؤرخين ذكر: «وأتَوا إلى مِصر، فأعانهم يهود مِصر على قتال المَسيحيّين فيها، وتخريب كنائسهم، فقتلوا ونهبوا وعاثوا وفعلوا ما لا خير فيه». و.. وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز
الثقافى القبطى الأرثوذكسى