فى الأسطورة الإغريقية للصانع الماهر يحكى أن دايدالوس صنع لنفسه ولابنه إيكاروس أجنحة من الشمع والريش ونصح ابنه بألا يطير فى مستوى منخفض، حتى لا تبتل الأجنحة بأمواج البحر، وألا يطير فى مستوى عال حتى لا تذيب الشمس الشمع.. ولكن إيكاروس لم يستمع لنصيحة والده وطار واقترب من الشمس وسقط فى البحر وغرق وأصبحت أجنحة إيكاروس منذ ذلك الوقت رمزاً للطيران فى اليونان..
أما تمثاله فيمكنك أن تراه وسط المدافن الزخرفية لمقابر الجندى المجهول لليونانيين بمدينة الإسكندرية والتى تعتبر مزاراً وذكرى للجنود الذين ضحوا بحياتهم إبان الحرب العالمية الثانية..
وبالرغم من أنه لا توجد علاقة مادية أو معنوية بين إيكاروس وبين مؤسس الجمهورية الإسلامية (المزعومة) بإيران، آية الله الخمينى الذى هبط ليس طائراً!! على بلاده عام ١٩٧٩ من منفاه بباريس إلى طهران موقعا بالشاه محمد رضا بهلوى.. إلا أن هناك خيطاً رفيعا يذكرنى بأسطورة إيكاروس - الذى كان منفيا أيضا مع والده لجزيرة كريت اليونانية - وتمثاله الذى توسط أبهة مقابر اليونانيين بالإسكندرية وبين ضريح الخمينى الذى حوله الإيرانيون إلى مزار سياحى ودينى بعد أن تكلف بناؤه، بعد أول سنتين من وفاته، مليارى دولار(خمسة عشر مليار جنيه) بالإضافة إلى المراكز الدينية والدعائية التابعة للمقبرة والتى أنشئت لتقاوم هزة أرضية بقوة ١٠ درجات بمقياس ريختر، بالإضافة إلى الهيكل الأساسى للقبة المطلى بالذهب والذى يزن ٣٤٠ طنا، أما غطاؤه فيزن ٥٠ طنا مع أربع مآذن مطلية بالذهب طول الواحدة منها ٩١ متراً لتحيط بالقبة كما جاء ذلك على موقع «DW-DeutscheWelle» الألمانى!
نعم هذا هو ضريح الخمينى الذى كان يدافع فى كل خطاباته عن الضعفاء ويندد بالمستكبرين!.. هذا هو ضريح الخمينى الذى تفوق مقبرته كافة مثيلاتها فى العالم! هذا هو ضريح الخمينى الذى يبرق، بينما يعيش حوالى ١٥ مليون إيرانى تحت خط الفقر نتيجة لصراع غير متكافئ بين أغنياء السلطة وبين ضحايا الغلاء والبطالة والتضخم فى بلد سكانه يبلغون ٧٥ مليون نسمة!
وعلى كل حال الموضوع ليس معنيا فقط ببذخ إيران أو ازدواجيتها فى مبادئها الدينية التى تنادى بها وتفرضها على شعبها، بل ربما يصبح ضريح الخمينى المستفز مادة تُفيقنا من ادعاءات وأكاذيب عاشها ويعيشها حتى الآن عالمنا الإسلامى من هؤلاء الذين مازالوا يعيشون هذا الوهم وينصاعون وراء أيديولوجيات وشعارات ومعتقدات زائفة وواهية ينادى بها حكامهم لأغراضهم ومصالحهم الشخصية والخبيثة، مخلفين هذا القطيع من «بسطاء العقول» الذين مازالت تحجب عيونهم غشاوة ترفع راية باسم الدين!
ولا يختلف الأمر كثيراً، فهذا الغسيل المتعمد لمسح العقول البسيطة - والله وغير البسيطة - والاستخفاف بها والذى أصبح ساذجا وخائبا بالمقارنة بما يجرى من مؤامرات وخطط إجرامية دولية وإقليمية من كل جانب، إلا أن ذلك لا يمنع أن تجد نوعا آخر من التشابه الذى يتخفى مرة أخرى تحت اسم الدين.. فهذه المجزرة فى حق التراث والتاريخ الإنسانى والثقافى الذى يقوم به تنظيم «داعش» ومعاونوه فى هدم الآثار والتحف التاريخية تحت مسميات الوثنية وعبادة الأصنام وغيرها من عبادات الجاهلية، ما هى إلا جرم وضيع يستخف مرة أخرى بالعقول.. يضغط.. ويضرب على تهييج المشاعر من أجل تحقيق أهدافه. فعمليات هدم ونهب وبيع الآثار تجلب عشرات الملايين من الدولارات لداعش، الأمر الذى شجعه، كما ذكرت صحيفة «صنداى تلجراف» البريطانية على تأسيس منظومة إدارية تشبه وزارة للآثار تسمح بتسيير شؤون المناطق التى يتم الاستيلاء عليها من أجل مساعدة عمل التنظيم على تهريب وبيع الآثار والحصول على عائداتها.. وهو ما تم بالفعل فى العراق عندما سيطر داعش على مدن الموصل ونمرود والحضر وغيرها من المدن السورية وعلى رأسها حلب وأخيراً مدينة بالميرا التاريخية التى وقعت منذ عدة أسابيع قليلة.
نحن إذن الآن أمام جريمة دولية منظمة مكتملة العناصر تتشابك فيها خيوط وعصابات دولية كثيرة.. دوافعها ومصالحها لن توقفها أو تحدها الإدانات والمؤتمرات والمنظمات من أجل اتخاذ الإجراءات الوقائية للحد من المزيد من هذه المجازر التى تصنف تحت اسم «جرائم الحرب»، والتى لا تبتعد عنا كثيرا أو عن دول أخرى مجاورة لها، أيضا تاريخا وحضارة..
هذه قضية شرسة لا تختلف فى خطورتها وشراستها عن تجارة ومافيا المخدرات والأسلحة والأدوية والأعضاء.. إنها تجارة عنيفة جديدة حدودها تغيرت ولم تعد مقصورة على تهريب قطعة من هنا أو تمثال من هناك.. إنها تجارة يمكنها أن تغير من معالم الحياة.. من تاريخ وجذور شعوب وأمم.. إننا أمام نوع جديد من الجريمة ينهش فرصته الآن وربما لن يتوقف حتى نجد أنفسنا عراة بلا جذور!
فرجاء.. وقفة.. نظرة وتأملا.. وربط بين أحداث وأعمال وشعارات كلها تثبت يوما بعد يوم كذبها وخداعها، تمتص عقولا بسيطة.. ضعيفة لأغراض دنيئة رافعة راية سوداء.. سوداء على «دماغهم» بإذن الله.