ما إن دخل شهر رجب المحرم إلا ووجد الناس أنفسهم فى ظلال أجواء روحانية عظيمة لشعورهم باقتراب شهر رمضان الكريم، لما وقر فى نفوسنا وقلوبنا من ارتباط الأشهر الثلاثة المعظمة رجب ثم شعبان ثم رمضان بعضها ببعض، ولما درج عليه المسلمون شرقاً وغرباً من تعظيم حرمات هذه الشهور بألوان من العبادة والتقرب إلى المولى سبحانه وتعالى بالذكر والفكر والصدقة وقراءة القرآن والسنة وتدبرهما والعمل بهما، وتصفية النفس والروح من شوائب التعلق بالدنيا الفانية تأسياً بسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
ولعل من حكمة الله سبحانه وتعالى ألا يدخلنا على شهر رمضان الفضيل دخولاً مباشراً دون أن يجعل له مقدمة بل مقدمات، تؤهل الروح وتهيئ النفس للدخول على معارج القرب فى هذا الشهر الفضيل، وهذه المقدمة هى شهرا رجب وشعبان، فبالإضافة إلى الأجواء الروحانية الطيبة التى تحف بأيام وليالى الشهرين الكريمين وما ورد فى كليهما من الترغيب فى أعمال البر والخير فى أيامهما المباركة، بالإضافة إلى ذلك فقد اشتمل شهر رجب الحرام على حادثة عظيمة مهيبة ومعجزة خالدة هى معجزة الإسراء والمعراج، حيث صار صلى الله عليه وسلم فى ليلتها الخالدة قاب قوسين أو أدنى فى ليلة يعجز اللسان عن وصف ما جرى فيها، ففيها تنعَّم الحبيب صلى الله عليه وسلم بمناجاة الله سبحانه دون واسطة، وفيها عُرف قدر ومقدار النبى صلى الله عليه وسلم، وتوج بالمقام الشريف إماماً للأنبياء وسيداً للمرسلين، وفيها فُرضت الصلوات الخمس، وفيها انفتح الملكوت بأنواره وأسراره للحبيب صلى الله عليه وسلم، وفيها توج صلى الله عليه وسلم بتاج شرف العبودية الحقة «سبحان الذى أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى».
أما شهر شعبان الذى نحيى ليلة نصفه الليلة، فقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يكثر من الصيام والعبادة فيه إلا الأيام الأخيرة منه التى تقترب من رمضان حتى لا يستقبل رمضان بصيام ومشقة تقطع عليه بهاء وجلال وجمال صيام أول رمضان، وقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يهتم بشعبان اهتماماً خاصاً، فعن أسامة بن زيد - رضى الله عنهما - قال: قلت: يا رسولَ الله، لم أرَك تصوم شهراً مِن الشهور ما تصومُ مِن شعبان؟! قال: «ذلك شهرٌ يغفُل الناس عنه بين رجَب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفَع فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يُرفَع عمِلى وأنا صائِم»؛ مسند أحمد وسُنن النسائى.
وفى منتصف شهر شعبان الفضيل من السنة الثانية للهجرة حُوِّلت القبلة المشرفة من جهة المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، فلما قدم النبى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان يستقبل بيت المقدس، وبقى على ذلك ستة - أو سبعة - عشر شهراً، كما ثبت فى الصحيحين من حديث البراء بن عازب - رضى الله عنهما - قال: صلّى النبى صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت… الحديث.
ثم بعد ذلك أمره الله تعالى باستقبال الكعبة (البيت الحرام)، وذلك فى قوله تعالى: (فولِّ وجهك شطرالمسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره…) سورة البقرة 144.
والذى يهمنا فى هذا الصدد أن نؤكد أن كل هذه المقدمات الروحية والنفسية لتدعونا إلى التوقف عند عظمة هذا الشهر الكريم، وإلى الخير العظيم الذى ينبغى للمؤمن أن يكون حريصاً عليه ومستعداً له.
وأول شىء أدعو المسلمين له استعداداً لمقدم هذا الشهر الفضيل أن ينفضوا عن أنفسهم، روحاً ونفساً وقلباً وعقلاً، حالة الدعة والكسل والتراخى والتواكل، وأن يتحلوا ويتخلقوا بأخلاق الأولياء المجاهدين والصابرين، فأمتنا بحاجة إلى بذل كل قطرة عرق وبذل كل غال ونفيس فى سبيل نهضتها وتقدمها.
ما أعجب أن نرى الناس يمسكون بالمصاحف لأجل الحرص على تلاوة القرآن وختمه مرات، وإذا ما وصل أحدهم إلى مقر عمله جعل من ذراعيه وسادة ومن مكتبه سريراً، بحيث تتعطل مصالح الناس تماماً وتشل الحياة إلا ما ندر، بسبب أن الموظف أو العامل كان قائماً بالليل وأصبح صائماً بالنهار، وإذا ما علمنا أن أعظم ملحمة انتصر فيها المسلمون على المشركين- وهى غزوة بدر الكبرى- كانت فى رمضان، وأن أعظم انتصار حققته مصر على إسرائيل كان كذلك فى رمضان، نتعجب من حالة الاعوجاج والفهم الخاطئ الذى نمارس به الشعائر والعبادات فى هذه الأيام.
لابد أن نستعد لشهر رمضان من الآن بتغيير العادات والمألوفات والاعتقادات الخاطئة التى تحول دون خروج المسلم من شهره كيوم ولدته أمه، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.