لا تكف الإمارات عن إدهاشنا!.. لا أقصد هنا دهشة ضيوف أبوظبى من جنسيات مختلفة حين يزورون مسجد الشيخ زايد، ولا دهشة زوار دبى حين يصعدون برج خليفة.. ولا دهشة المتابعين للمشروعات الاقتصادية والاستثمارية الضخمة التى تجتذب رجال الأعمال من شتى بقاع الأرض.. كل ذلك جميل ورائع، خاصة لمن يكتشف لأول مرة أن هذا البلد عمره ثلاثة وأربعون عاما فقط!.. الدهشة التى أعنيها سببها تركيز القيادة الإماراتية على النجاح فى استثمار من نوعٍ آخر، هو الاستثمار فى البشر!.. والمسألة ببساطة شديدة تتمثل فى قناعة الإماراتيين بأن يوماً ما سينضب النفط أو سيجد العالم له بديلاً، وبالتالى سيختفى المنبع الأساسى للدخل القومى، الذى يجعل الشعب الإماراتى فى مقدمة الشعوب الأكثر رفاهية فى الوقت الراهن!.. لا تغيب هذه النقطة عن حكام الإمارات ونخبتها ومعظم مواطنيها، ذلك تحديداً يفسر تجارب عديدة تعكس استعداد الإماراتيين لليوم التالى بعد اختفاء النفط، الذى تملك منه إمارة أبو ظبى وحدها ١٠٪ من الاحتياطى العالمى!
تجتهد الحكومة فى تنفيذ خطةٍ لتقليص الاعتماد على الذهب الأسود، ولعل أبرز المبادرات فى هذا الخصوص تأسيسُ شركة أبوظبى لطاقة المستقبل، وإنشاء مدينة (مصدر) كأول مدينةٍ خالية من الكربون والنفايات فى العالم، بالإضافة إلى كونها أول مدينة تعتمد على الطاقة الشمسية بشكل كامل!.. أتاح لى عملى الإعلامى زيارة (مصدر)، التى أتحدث عنها اليوم باعتبارها مثالا حيّا للاستثمار فى المواطن الإماراتى، إذ قاد إطلاق هذه المبادرة الرائدة فى عام ٢٠٠٦ واحدٌ من شباب الدولة، اسمه سلطان أحمد الجابر، متسلحاً بدرجة الدكتوراة فى إدارة الأعمال والاقتصاد من جامعة كفنترى بالمملكة المتحدة، والماجستير والبكالوريوس فى الهندسة الكيميائية من جامعة جنوب كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
كانت فكرة مدينة (مصدر) فى ذلك الحين نوعاً من الخيال، الذى تحول تدريجياً إلى واقع ملموس يبهر كُل َ زوارها، لا سيما أنها تضم معهداً للعلوم والتكنولوجيا يهتم بأبحاث الطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة، ويجذب دارسين موهوبين من أكثر من ثلاثين دولة!.. قبل يومين احتفل المعهد بتخريج الدفعة الخامسة، وقد كانت تلك المناسبة فرصةً للتأكيد على ضرورة تنمية كوادر وطنية على درجة عالية من الكفاءة، وقادرة على دفع عجلة التنمية فى القطاعات الرئيسية التى تستهدفها الاستراتيجية الوطنية للابتكار.. هكذا قال الشيخ عبدالله بن زايد، وزير الخارجية الإماراتى، فى كلمته التى ألقاها فى الحفل.
ورغم كونهم سباقين فى هذا المجال على مستوى العالم العربى، إلا أن الإماراتيين لا يريدون احتكار نموذج (مصدر) لأنفسهم.. وسأورد مثالاً قريبا: منذ ثلاثة أشهر قام الدكتور سلطان الجابر، باعتباره رئيس المكتب التنسيقى للمشروعات التنموية التى تقيمها دولة الإمارات فى مصر، بافتتاح محطةٍ للطاقة الشمسية فى سيوة بمحافظة مطروح، تصل طاقتها الإنتاجية إلى 10 ميجاوات، وتم ربطها بالشبكة المحلية لإمداد مدينة سيوة وتوابعها بالكهرباء.. كنت يومها شاهداً على هذا الحدث، ولاحظت أن الدكتور سلطان كان أكثر سعادة لتنفيذ هذا المشروع بالذات.. ربما لأنه من المشروعات التى تواجه بها الإمارات تحديات المستقبل، عن طريق حُسنِ استخدام ما وهبه الله عز وجل من موارد للطاقة المتجددة، مثل الشمس والرياح!.. فى الطائرة التى أقلتنا إلى مطروح أشار الدكتور الجابر من النافذة إلى الصحراء الممتدة على مدى البصر وقال لى: انظر إلى نِعم الله على مصر!..
يُحسن الإماراتيون بالفعل استخدام تلك الموارد الطبيعية، لأنهم مهتمون حقاً باقتصاد المعرفة، وبالاستثمار فى النوابغ من أبنائهم.. أكتب هذا المقال بعد أن بلغنى خبر تعيين الدكتور سلطان الجابر رئيساً للمجلس الوطنى للإعلام، الذى حل منذ عدة سنوات بدلاً عن وزارة الإعلام.. سألنى صديق مندهشاً: ما علاقة براعة الرجل فى مشروعات الطاقة المتجددة بالإعلام؟!.. قلت: المسألة تتعلق بفن الإدارة، فليس من الضرورى أن يكون مدير المستشفى طبيباً!..
قبل مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى كتب الدكتور الجابر فى صحيفة (وول ستريت جورنال)، الأمريكية: (إن ما بذلناه من جهود لدعم استقرار اقتصاد مصر والمساهمة فى بناء قدراتها البشرية ينطلق من قناعة راسخة بأن استقرار مصر وازدهارها يشكل ضماناً لاستقرار وازدهار منطقة الشرق الأوسط. ولقد حان الوقت الآن لشركاء مصر الدوليين لكى يعلنوا بدورهم عن التزامهم بمساندة مصر بالأقوال والأفعال معاً).
كل التمنيات الطيبة لهذا الرجل، الذى يترجم بأمانة وصية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لأبنائه بالوقوف فى صف مصر وشعبها.