x

يوسف معاطي من قلب الصحراوى.. بجد.. ألف مبروك يوسف معاطي الثلاثاء 26-05-2015 21:49


حقاً.. ما أجمل ديمقراطيتنا!.. ما أروعها تلك الديمقراطية التى ظللنا آلاف السنين نكافح من أجلها إلى أن وصلنا إليها بحمد الله!.. صحيح أننا وصلنا متأخرين.. ولكننا أخيراً أمسكنا بها.. وقبضنا عليها.. مبروك لشعبنا الذى صار ينعم بالديمقراطية وأراها وهى تنط من الأعين وتنطلق على الألسن جامحة لا يستطيع أحد أن يمسك بلجامها..

كان البوليس السياسى والحرس الحديدى يمارسان القهر أيام الملك.. وقامت ثورتنا فى 23 يوليو فعلها الضباط الأحرار وقضوا على البوليس السياسى والحرس الحديدى ليمنحوا الحرية للشعب كله.. ثم بعد ذلك.. ماذا حدث؟!. فتحت السجون والمعتقلات.. واعتقل الآلاف.. بعضهم كان قد قال نكتة على الرئيس.. وبعضهم تنهد فى ضيق وشوح بيده.. وآخر كتب قصيدة كان يقولها فى السر لأصدقائه.. وكان المبرر هو حماية الثورة.. حماية الحرية وحماية الديمقراطية وجاء الرئيس السادات..

فكان أول ما فعله هو أن أمسك ببلطة وحطم المعتقلات وأفرج عن المساجين السياسيين وقالها الرجل بصراحة.. أنا رئيس ديمقراطى.. هيا اعملوا أحزاب.. تكلموا.. قولوا ما تشاءون.. وكأن شعبنا ما صدق.. انهالت على الرئيس وقتها الاحتجاجات والمظاهرات حتى إن الرجل فقد صبره كثيراً.. وبدأ يتراجع تدريجياً عن ديمقراطيته.. فمرة قال الديمقراطية لازم يكون لها أنياب!!. ومرة أصدر قانون العيب.. كل ذلك حتى يتفادى هذا الهجوم الضارى الذى لاقاه بسبب الديمقراطية.. وأخيراً أنهى حياته بأن وضع مصر كلها فى السجن فى سبتمبر واغتيل فى أكتوبر على يد من أفرج عنهم.

وفى عصر الرئيس مبارك.. الذى بدأ حكمه أيضاً بالإفراج عن المعتقلين وأكد فى خطاب توليه الحكم على التمسك بالديمقراطية ولكن فى نفس الوقت كان هناك يقين لدى الدولة بأن الشعب ليس جاهزاً للديمقراطية بعد، ولهذا يجب أن نعطيه الديمقراطية على شكل كورسات علاجية.. كل كام سنة كده أفتح شوية ولأن الرجل ظل يحكم مصر لثلاثين عاماً.. فقد بلغت الفتحة فى 25 يناير أقصى اتساع لها ولم يعد ممكناً إغلاقها مرة أخرى، وبالتالى فالرئيس الذى جاء بعد مبارك لم يأخذ فى إيد شعبنا غلوة!!.

ومبروك أيضاً للفن المصرى الذى ذاق الأمرّين فيما يختص بالرقابة وتلك الأيدى الخشنة التى كانت تشطب وتحذف وتمنع ما تراه دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض.. لقد كسب السبكى المعركة ضد الدولة!!. وفيلمه الذى أمرت الدولة بمنعه.. عاد بحكم قضائى.. هل كان أحد يتخيل أن هذا يمكن أن يحدث فى مصر؟!.

وبعد ثورة يوليو.. قررت الثورة أن تعمل فيلماً يتعرض للفساد الذى كان يستشرى فى القصر الملكى.. وكيف استطاع الضباط الأحرار أن يخلصوا البلاد منه.. وكان الفيلم اسمه «الله معنا».. وشارك فى بطولته كبار النجوم فى ذلك الوقت.. سيدة الشاشة فاتن حمامة.. ومحمود المليجى وحسين رياض وعماد حمدى.. وكان الدور الرئيسى فى الفيلم دور الرئيس محمد نجيب.. وكان يقوم به الفنان الكبير زكى طليمات.. ويقال إنه مثل دوره بعظمة وبراعة ليس لهما نظير.. وبعد أن صور الفيلم وفى مرحلة المونتاج.. حدثت أزمة مارس التى أطيح فيها بالرئيس محمد نجيب.. وكان القرار- من فوق- شيلوا محمد نجيب من الفيلم.. وحذف الدور بأكمله.. وصار الفيلم مترهلاً وبه خلل درامى واضح.. وهكذا كان الفن دائماً.. عبد المأمور.

ولكن ماذا سنكتب بعد أن حصلنا على ديمقراطيتنا.. أشياء كثيرة تغيرت فى حياتنا.. والشخصية المصرية نفسها تطورت وصارت ديمقراطية أكثر من اللازم.. ولذا يجب أن نتطور نحن أيضاً وقد طلب منى أحد المنتجين أن أكتب له فيلماً عن الجاسوسية وهى من المواضيع المشوقة التى يحبها الناس ويقبلون عليها.. كتبنا الفيلم وأرسلناه إلى المنتج.. الذى قابلنى ببرود بعدها وقال لى: إيه الجاسوس اللى أنت كاتبه ده؟!.

قلت له فى ضيق: ماله؟!. جاسوسى وأنا حر فيه.. أكتبه زى ما أنا عاوز.. قال المنتج ضاحكاً: ما قلتش حاجة يا أستاذنا.. إنما.. إيه كل اللبش اللى أنت عامله حواليه ده.. حبر سرى؟!. وأجهزة إرسال وكلمة السر والشفرة ولا لما راح يقابل الراجل فى المطعم وقعد يكلمه وهو مديله ضهره.. إيه الجو ده!!. قلت له صارخاً: مش جاسوس يا عم أنت؟!. ابتسم المنتج وقال لى يا بيه الجواسيس ما بقتش بتعمل الحاجات دى خلاص.. الفيلم ده تاخده زى ما هوه كده وتوديه على روتانا زمان.. ده يمشى ستينات!!.

الأيام دى يا أستاذنا.. الجواسيس رايحين جايين قدام الناس عادى.. بيطلعوا فى التليفزيون وبيقبضوا من برة.. وموقفهم واضح جداً.. وبيقعدوا فى الأوتيلات يتكلموا مع بعض بصوت عالى.. وينشروا مقالات فى الجرايد.. أنا ليا واحد صاحبى شغال جاسوس.. كل يوم بيعدى عليا فى القهوه نقعد نلعب طاولة ونشيش مع بعض للصبح.. عادى.. ثم إن كلمة جاسوس نفسها لم تعد من الكلمات المستخدمة فى حوارنا اليومى.. اليوم صرنا نقولها هكذا.. الباشا عميل!!. أو الأستاذه عميلة!

هكذا بمنتهى البساطة.. مثل أى عميل لدى شركة تجارية.. وصارت تليفوناتهم تسجل وتذاع عادى جداً على القنوات وتحظى بأكبر نسب مشاهدة.. ومن الذى سجل لهم وأطلق هذه التسريبات فى هذه اللحظة الديمقراطية من تاريخنا؟! لا تنس أن الدولة لها عملاؤها أيضاً.

أخذت الفيلم وتركت مكتب المنتج وأنا فى قمة الاندهاش! هل ظلمنا مديحة كامل فى فيلم الصعود الى الهاويه؟! يقول الفيلم إنها أعدمت هى وصديقها إبراهيم خان.. وماذا فعلا يعنى؟! كل ده عشان سربوا كام معلومة كده لجميل راتب؟! إن هذا مقارنة بما يحدث الآن يعد لعب عيال.. صدقونى نحن ككتاب دراما.. صرنا فى مأزق.. كيف نكتب شخصية جاسوس يا ناس؟!

وليست شخصية الجاسوس فقط التى صار يصعب كتابتها فى أعمال درامية.. عندك الرقاصة.. طبعاً أنت سعدت بالجملة الأخيرة «عندك الرقاصة».. ولكنى أضرب بها مثلاً فقط وسأسحبها فوراً من عندك.. أنا عندى الرقاصة!

أى رقاصة لها شروط حتمية لابد أن تتوفر فيها لكى نكتب عنها مسلسلاً أو فيلماً.. فأولاً.. الرقاصة يجب أن تهرب من بيت أهلها.. وهذه مرحلة أولى فى حياتها لا يستطيع أعتى كتاب الدراما أن يتجاهلها ثم ندخل على المرحلة الثانية وهى أن تعمل شغالة فى البيوت.. ماشى سيادتك معايا.. بعدها سيتحرش بها صاحب البيت أو ابنه.. وغالباً ما سيعتدى عليها أثناء عملية مسح وتطويق الأرضية الشهيرة بالخيشة بعدها ستهرب من البيت.. وتغير اسمها.. وتشتغل رقاصة.. كده إحنا كمسلسل.. تمام بقى معانا رقاصة.. إيه رأيك؟.

استغرق المنتج فى ضحكة طويلة.. طويلة.. وهو يشير نحوى كأننى أبله أو مأفون وقال وهو لا يستطيع أن يكتم ضحكته.. تغير اسمها.. هاه.. وتهرب من بيت أهلها!!. هاها.. اسمع يا أستاذنا الفيلم ده تاخده زى ما هوه كده وتطلع على روتانا زمان.. ده يمشى أربعينات.. ثم أردف قائلاً.. الرقاصة النهارده يا أستاذنا بقت أمن قومى.. ومصر مستهدفة.. ألم تسمع عن تلك المؤامرة التى تحاك ضد الرقص فى مصر!!. وأن كل دول العالم تحاول أن تسرق مننا الرقص الشرقى؟!. لطشوه مننا فى أمريكا اللاتينية.. وفى اليابان.. وأوروبا فاتحة معاهد وبيعلموه للبنات هناك!!.

الرقاصة النهارده بقى ليها كلمة.. ووضع فى البلد.. ده أنا شفت فى برنامج الراقصة رقاصة من إمبابة كانت مقدمة فى المسابقة.. والله كنا بندعيلها ليل نهار ربنا يوفقها.. وجابوها فى لقطة كده مع أمها.. وأمها محجبة.. وعمالة تدعى لبنتها.. راحت البنت بايسة إيديها.. والبيت كله عندى بقى يسح عياط.

وكان يجب بعد ما سمعته من صديقى المنتج.. أن أغير الفيلم.. وأغير المنتج.. وأن أتجه إلى الدراما التليفزيونية التى لا تخضع إلى حد ما إلى تلك المقاييس التجارية فى السينما.. وكتبت مسلسلاً.. وكان بالمسلسل شخصية رجل دين طاهر وله كاريزما وحضور طاغ.. وهو الذى استطاع أن ينقذ البطل من مستنقع الخطيئة الذى سقط فيه.. وجاء لى المخرج الشاب ليكلمنى عن انطباعه ورأيه فى العمل.. فسألته: من فى رأيك الممثل الذى يقوم بدور الشيخ عبد الله.. رجل الدين؟!.

فقال ببرود: يحيى شاهين، الله يرحمه! ابتسمت فى سعادة لأن ترشيحه هذا يدل على أنه أعجب بالدور.. فعدت أسأله: طيب مين دلوقت يعمله؟!. قال لى المخرج: يا أستاذنا.. شخصية رجل الدين هذه لا يمكن تاكل مع الناس.. هذه الصورة المثالية من الطهر والصدق والعفاف.. قد تكسرت تماماً بعد التجربة المريرة التى مر بها الشعب المصرى.

ولم أعرف كيف أرد عليه.. حتى رجل الدين لم نعد نستطيع أن نكتبه يا ناس! وفتحت الشباك وألقيت بالحلقات فى الشارع.. حسناً لنعترف بأن كل شىء قد تغير.. لقد فعلتها ديمقراطيتنا حقاً.. ولكن ماذا سنكتب الآن وعمن سنكتب؟!. وقررت ألا أيأس.. سأغوص فى قاع المجتمع.. سأعرض لكم شخصيات من الواقع المصرى.. شخصيات حية طبيعية أفرزتها الديمقراطية.. سأنزل الى الشوارع.. إلى الحوارى.. وما كدت أفعل ذلك وعينك ما تشوف إلا النور؟!. عشرات الأفلام كلها صيع وبلطجية يحملون المطاوى والسنج ويتكلمون بطريقة عنيفة مخيفة ولم أشأ أن ألحق بالركب.. وأمضى فى طريق الصياعة السينمائية.. مفضلاً أن أنزل أكثر من ذلك.. وكتبت فيلماً شعبياً عامراً بكل عناصر الجذب وأطلقت عليه اسماً بياعاً «الزبال»!!!.

وذهبت به إلى المنتج الذى رحب كثيراً بعودتى للسينما وأمسك بالسيناريو سعيداً وقال الزبال!!

اسم حلو.. البداية كده تطمن.. أيوه كده يا معلم.. توكلنا على الله.. ح نجيب تصريح الرقابة والفيلم ده أنا ح ادخله أول الشهر.. ولم يمر يومان حتى جاء لى المنتج وقد بدا مستاء بعض الشىء وفى يده السيناريو وقال أنا آسف يا أستاذنا.. مش ح أقدر أعمل الفيلم: قلت له غاضباً. ليه الرقابة رفضته؟!.

ده أنا أقلب الدنيا.. هوه إحنا كنا عملنا ثورة عشان الرقابة تتحكم فينا؟!. فين بقى الديمقراطية؟!. قال المنتج فى ضيق.. لأ.. يا عم مش حكاية رقابة.. الرقابة وافقت ومعانا التصريح.. الفيلم إتوقف من حتة تانية خالص.. الزبالين معترضين على الفيلم.. ونقيب الزبالين بعت لى إنذار.. وانت عارف الزبالين ممكن يعملوا إيه!!. دول شالوا وزير العدل فى ثانية!!.

مش ح يقدروا يشيلوا الفيلم.. إبعدنا يا عم عنهم إعمل معروف ليعملوا إضراب هما روخرين ويبطلوا ينضفوا الشوارع ونشيل إحنا الليلة.. بناقص الفيلم ده خالص.. وأمسكت بالسيناريو وخرجت محبطاً.. وفى الطريق ألقيت به فى أقرب صندوق زبالة وجدته أمامى.. كان ممتلئاً عن آخره بالقمامة، والفضلات والقاذورات تحيط به من كل جانب.. وقد تحول المكان إلى خرابة ليس لها أول ولا آخر.. حقاً.. ما أروع ديمقراطيتنا!!. بجد ألف مبروك.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية