من المؤكد أن حال التعليم فى مصر، سواء أكان قبل الجامعى أم الجامعى أم غيره لا يرضى أحداً، وعلى الرغم من تحقيق بعض النجاحات هنا أو هناك فى بعض الجامعات، أو البرامج الدراسية فيها، إلا أن الصورة العامة تبدو غير مريحة على أحسن الفروض تفاؤلاً. ولذلك يظل السؤال حول كيفية الخروج من هذا المأزق وارداً وبإلحاح وغير قابل للتأجيل.
إن مصر، وهى ترنو إلى تقدم تنشده، وإصلاح تنتظره، وحياة كريمة ترجوها لشعبها لا يمكن أن تحقق ذلك إلا بإصلاح التعليم وتطويره، وهو أمر بات ضرورياً ولا فكاك منه، كما أن أى إصلاح لكل مشكلة لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحددت هذه المشكلة تحديداً دقيقاً، ووصفت توصيفاً جدياً حتى يتضح مداها وصورها وكيفية التعامل معها. فإذا ما ظل الطبيب يلاحق أعراض المرض دون علاج أصل الداء فإن عمله فى النهاية إلى سراب وغايته فى شفاء المريض تبقى ضرباً من المستحيل الذى لن يتحقق أبداً.
إن مشكلات التعليم العالى فى مصر واضحة جلية، وهى متشابكة، وقد بلغت حداً من التعقيد ينذر بخطر جسيم على مستقبل الأمة كلها، ومن أهم هذه المشكلات على الترتيب فى ظنى كما يلى:
المشكلة الأولى: تتمثل فى خلل المنظومة التى تدير وتنظم العملية التعليمية، وتلك أخطر مشكلة تواجه المؤسسات التعليمية فى مصر، فمعها يكون الكثير من هذه المؤسسات خواء بلا معنى أو شكل بلا مضمون حقيقى.
إن خلل أى منظومة تعنى أن تجرى سننها المالية والإدارية فى إطار غير سليم أو صحيح يقتل الإبداع ويحارب التطور فى ظل منظومة إدارية روتينية لا تستهدف الإصلاح، ولكن تسيير الأحوال بمنطق «فلتسير السفينة اليوم وغداً يحدث ما يحدث»، هذا المنطق هو الذى أدى فى كثير من المؤسسات أن يألف العاملون فيها على كافة مستوياتهم القيادية أو الوظيفية هذا الانهيار دون أن يهتز لهم جفن أو تستيقظ لهم همة أو تتحرك لهم رغبة فى الإصلاح.
إن إصلاح منظومة التعليم الجامعى فى مصر يحتاج إلى إطار تشريعى ولائحى جديد، يقوم على تخويل القائمين عليها سلطة اتخاذ القرارات وسد منافذ الفساد وكذلك وجود أطر فاعلة للمحاسبة والمراجعة والمؤاخذة حتى يستقيم البنيان. إن يقينا راسخا لدى بأن كل إصلاح لابد أن يكون إصلاحاً تشريعياً ولن يكون ذلك إلا بإطار قانونى ولائحى ويحاسب ويؤاخذ ويسد منافذ الفساد والإفساد فى المنظومة الجامعية، ويمكن للانطلاق والتحديث والتطوير وفقاً لآليات علمية منضبطة.
إن أى حديث عن إشكاليات نقص التمويل- وهو حق- أو غيره من متطلبات إصلاح التعليم الجامعى لن يستقيم إلا إذا صلحت المنظومة وتعافت فى مؤسسات التعليم العالى، وهو الأمر الذى يصدق فى ظنى على كل مؤسسات الدولة، وحل تلك المعضلة هى مقدمة أساسية ومفترضة لأى إصلاح، فبغيرها يبدو كل جهد فى هذا الإطار حرثاً فى الماء بغير جدوى.
المشكلة الثانية: ضعف تمويل التعليم العالى والبحث العلمى فى مصر.
تلك أيضاً مشكلة مهمة وظاهرة للعيان إذ تتمثل 90% من ميزانية الجامعات المصرية فى الرواتب والمكافآت أياً كان مسماها وهى فى كثير من الأحيان تصرف بغير ضابط ولا رابط- وتلك قصة أخرى- تؤكد الخلل فى بناء الوظيفة العامة فى مصر، إذ أن 60% تقريباً من المبالغ المخصصة لدخول الموظفين فى الجهاز الحكومى هى فى الحقيقة مكافآت، وآفة هذا الجهاز هو ترك كل رئيس إدارى وشأنه فى صرف وتحديد مكافآته ومكافآت من حوله، وهو أمر يجب أن ينتهى حتى تستطيع هذه المؤسسات استثمار مواردها فيما يفيد (رفع كفاءة العملية التعليمية- البحث العلمى).
لقد لاحظ الكثيرون انسحاب الدولة من تمويل التعليم الجامعى، وذلك منذ ما يقارب ربع القرن وحتى الآن، الأمر الذى استشعر خطورته واضعو الدستور فضمنوا الدستور إلزام الحقوق بنسبة إنفاق مقدرة على التعليم والبحث العلمى، مازلنا نأمل أن تتحقق.
إن انسحاب الدولة من تمويل التعليم الجامعى بصورة كافية أدى إلى أن تتفنن الجامعات فى استحداث طرق وبدائل لزيادة مواردها، ولكنها رغم ذلك غير كافية وغير مؤثرة، وقد وجُهت فى الأغلب إلى إنفاق لا يتصل مباشرة بتحسين العملية التعليمية أو البحث العلمى. وهو ما يعرف بأموال الصناديق الخاصة بهذه المؤسسات.
إن ضرورة عودة الدولة للإنفاق المطلوب على التعليم أمر بالغ الأهمية، ويجب أن يرتبط بإصلاح منظومته سواء فيما يتعلق بالمجانية وصورها وكيفية تطبيقها، وتلك هى المشكلة الثالثة «مشكلة المجانية».. إن أى فكرة من الأفكار مهما بلغت عظمتها وعمق تأثيرها لا يمكن أن تمثل نسقاً مقدساً يستحيل المساس به.
إن المجانية فى مصر كانت وسيلة لا ينكر أحد فضلها فى بسط التعليم لمجموعات وأطياف من الشعب المصرى كان يمكن بغيرها أن تتخبط فى ظلمات الجهل والضلال، وهو أمر غير منكور، على أن ذلك لا يعنى أن تظل صامدة بحدود نشأتها ومداها وآلياتها وما يترتب على ذلك من عدم القدرة على التعامل مع بعض آثارها، والتى تكفل التعليم المجانى فى الجامعة لمن كان يتعلم فى مدارس أجنبية أو خاصة تربو مصاريفها السنوية على خمسين ألف جنيه.
هذا الطالب تفتح له الجامعة الحكومية أبوابها لدراسة الطب والهندسة والصيدلة بمائة وخمسة وستين جنيهاً فى العام، على الرغم من بلوغ التكلفة الفعلية فى كلية الطب مثلاً فى العام الواحد خمسة وخمسين ألف جنيه مصرى.
أو يظل الطالب يرسب لعشرات السنين، ويتمتع فى كل عام بهذه المجانية التى يُحّرم البعض مجرد النظر إليها بنظرة عتاب أو ملام.
وفى نفس الوقت فإن هذه الأصوات تجلد الجامعات الحكومية صباح مساء وتتهمها بأنها لا تعلم ولا تبحث ولا تتقدم.
نريد حلاً يتوافق عليه المجتمع نحو احترام حق غير القادر فى التعليم المجانى ومساهمة القادرين فى نفقات تعليمهم، وهو ما أشار إليه الدستور الجديد بفكرة تطوير المجانية.
هنا يستقيم الأمر وتصح الصورة ولكن كيف يحدث ذلك؟ هذا أمر مطروح يجب أن يناقش بهدوء وروية ويحدث بتوافق مجتمعى.
وثمة مشكلات أخرى كثيرة لا يتسع المجال للتفصيل فيها هنا. ومنها الترهل الإدارى، إذ أن بعض الجامعات ككثير من مؤسسات الدولة صارت مستودعاً فى تعيين الموظفين، وأحياناً أعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم بغير اعتبار لمعيار الجامعة إلى أن يصبحوا عبئًا على الجامعة إدارياً ومالياً ونفسياً. إن هذه الطاقات المعطلة فى كثير من الأحيان لا تجد ما تفعله غير إثارة الفوضى وشيوع الكسل والبيروقراطية والمناكفة والمعاكسة بما يؤدى إلى عدم انضباط المنظومة وتحويلها دائماً إلى حالة سائلة لا تؤدى إلى نهضة أو إصلاح أو إنتاج. ولا يمكن أن ننتهى من هذا المقال بغير الإشارة إلى مشكلة الأعداد الكثيرة التى يقذفها مكتب التنسيق إلى رحم الجامعات كل عام بغير رحمة وبغير تقدير لإمكانيات كل جامعة، فالكلية التى تستوعب بالكاد مائة طالب يقذف إليها عشرات المئات، والكلية التى تستوعب ألفاً يقذف إليها ما يقارب العشرة آلاف طالب. كيف يدرسون بلا إمكانيات حتى فى حدودها الدنيا؟ إن كثيراً من طلاب الكليات النظرية لا يجدون مقعداً يجلسون عليه ولا تدريب يتأهلون به ولا منهجاً صحيحاً يتعلمون به فى كثير من الجامعات.
تلك مشكلات أساسية تولدت عنها مشكلات فرعية كثيرة، وجميعها مشكلات صعبة ومتداخلة ومعقدة ولكنها لا تستعصى على الحل الذى أصبح ضرورياً. فاستمرار الحال من المحال.
عزيزى القارئ
قد تجد الصورة غير مريحة بعد قراءة هذا المقال وقد ينتابك الغضب بعض الشىء، ولكن لابد من المصارحة والمكاشفة بحقيقة الحال.
نحن نحتاج إلى شجاعة الاعتراف بالأزمة حتى نتبين أفضل الحلول لها، لم يعد لدينا وقت نهدره، ومصر الدولة والشعب على أعتاب مرحلة تحرص فيها على التقدم وتصحيح كل أخطاء الماضى. ولا تملك ترف أن تتسرب منها هذه الفرصة التاريخية لمواجهة أسباب هذه المشكلة أمام عوامل التطوير، فيجب أن تخضع لحوار مجتمعى ينتهى إلى روشتة إجرائية للإصلاح تستهدى بالجوانب الإيجابية لدينا، وتنظر إلى تجارب من كان فى مثل حالتنا، ثم غير ما بنفسه فتغيرت أحواله، تلك سنة الله فى خلقه.
رئيس جامعة القاهرة