x

يوسف معاطي من قلب الصحراوي :متدين بالفطرة يوسف معاطي الأحد 24-05-2015 21:31


كلنا يؤكد دائماً فيما لا يدع مجالاً للشك أن شعبنا دمه خفيف بالفطرة رغم أننا غالباً أقرب إلى الشكوى والكآبة والسهوم والنكد، ولكن كلمة «بالفطرة» تصبح كلمة حاسمة قاطعة جازمة لا يجرؤ أحد أن يناقشها نهائياً، وإلا صار ذلك اعتراضاً على المشيئة الإلهية لا سمح الله.. فهذا فنان بالفطرة وهذا أديب بالفطرة وهذا «لعيب» بالفطرة.. مما يجعل موهبته أمراً مسلماً به خلق معه فى جيناته فلا أحد كان له فضل عليه.. ولا البيئة التى عاش فيها كان لها أى دور فى تكوينه.. ولا هو مطالب ببذل أى جهد من أى نوع.

ولهذا سعد المصريون جميعاً بهذا التعبير الذى انتشر بعد ثورتنا وهو أن شعبنا «متدين بالفطرة» وتلقف تيار الإسلام السياسى هذا التعبير بمهارة يحسد عليها، ولم يحاول أن يفض الاشتباك الحادث بين فكرتين متناقضتين كانا تطرحان معاً فى نفس اللحظة.. وهو أن الفساد قد استشرى فى كل ربوع مصر من أدناها إلى أقصاها، ومع ذلك فهو متدين بالفطرة!!!

ونجح التيار السياسى نجاحاً ساحقاً على طريقة «سوف نسحقهم» فماذا ينتظر يعنى من شعب قالوا له إنه متدين بالفطرة حينما يجد أمامه جماعات يقولون إنهم بتوع ربنا!!. ولأن المواطن المصرى يحب أن يعيش بالفطرة ولا يبذل أى مجهود فقد أتى بهم على سدة الحكم منتظراً فى صبر جميل ولهفة كبيرة المائتى مليار التى وعدوه بها صبيحة دخولهم قصر الاتحادية، خصوصاً بعد أن خذلتهم الثورة فى مسألة استعادة المليارات المنهوبة فى بنوك أوروبا وذهبت لجان وعادت لجان وما استفتحناش حتى تاريخه مما جعل المواطن المصرى «المخنوق بالفطرة» يتنهد فى زهق.

- وبعدين يا إخوانَّا.. يعنى مفيش حاجة جات!!. وآخرتها!!. انتو عاوزينا ننزل نشتغل ولاّ إيه؟!. هوه احنا كنا قومنا بالثورة عشان يطلع عين أبونا.

ولم يكن أمام المواطن المصرى حل آخر.. كمواطن متدين بالفطرة سوى أن يذهب إلى هؤلاء الذين يوزعون السكر والزيت ويهتمون بالتكاتك.. ويذبحون العجول أمام مدينة الإنتاج الإعلامى ويفرقونها على أهل الله.. وبالإضافة لكل هذا الخير العميم فهم أيضاً بتوع ربنا بالفطرة.

وحينما سأل أحد الإعلاميين الرئيس المنتخب.. وقتها: ماذا لو خرجت مليونية تطالب برحيلك؟!. ابتسم الرجل فى طيبة مفتعلة وقال: مليونية!. ده أنا لو خرج عشر أنفار فقط والله ما أقعد فى الحكم ولا ثانية.. وصفق المصريون لهذا الرئيس المدنى الديمقراطى.. ابن الثورة.. والحقيقة أن الرجل كان يكذب وشعبنا كان يكذب على نفسه أيضاً ويتظاهر بأنه يصدقه.. كنا جميعاً نكذب بالفطرة.. لن أتحدث هنا عن هذا العام الغريب، والذى يستحق عن جدارة لقب «عام الفطرة».

ولأقفز بكم بسرعة إلى يوم 30 يونيو حينما خرج الملايين بالفطرة لكى يقولوا للرئيس: ارحل بأه بالفطرة.. كان الرئيس جالساً فى مكتبه حينما دخل عليه سكرتيره الخاص وقال له: فيه معلومات يا فندم عندنا إن فيه مظاهرة خرجت فى الشارع ضد سيادتك.. إيه التوجيهات؟!

قال الرئيس باستهانة: وعددهم يطلع كام دول؟!

قال السكرتير: المكتب فى المقطم بيقول إنهم ييجوا عشر أنفار مش أكتر بس هما مزودينهم بالجرافيكس.

قال الرئيس: واحنا معانا كام فى رابعة؟

قال السكرتير: من تلاتين لأربعين مليون يا فندم بس هما منقصينهم بالجرافيكس.

قال الرئيس بحسم: تجيب لى أسامى العشرة اللى خرجوا ضدى دول وبتوع الجرافيكس وتكلم الداخلية تعتقلهم كلهم.

قال السكرتير فى أسى: الداخلية مش معانا يا فندم.

قال الرئيس: كلم النيابة علطول يعتقلوا الاتنين ومعاهم بتوع الجرافيكس.

قال السكرتير: والنيابة مش معانا يا فندم.

قال الرئيس غاضباً مندهشاً: لأ.. دول لا يمكن يكونوا مصريين.. الشعب المصرى أنا عارفه كويس.. متدين بالفطرة.. هما عاوزينى أسيب الحكم عشان شوية جرافيكس.

وفى رأيى المتواضع أن المصريين لم يكتشفوا الكتابة والتحنيط وبنوا الأهرامات المعجزة فقط وإنما هم من اكتشفوا الدين، وأن الديانة المصرية القديمة كانت هى أول طرح فى البشرية لفكرة أن سلوكيات الإنسان وأخلاقياته فى حياته هى التى ستحدد مصيره فى العالم الآخر بعد أن يحاسب على كل ما فعل فى دنياه من خير أو من شر.. وقد أقبل عامة الشعب على هذه المعتقدات إقبالاً كبيراً وتغيرت حياتهم إلى الأفضل بالتأكيد.. ومرت على مصر بعد ذلك الأديان تقدم نفسها.. وكان المصريون يفتحون أذرعتهم ويلاقونها بكل حب.. ويتعاملون معها بالخبرة وليس بالفطرة.. بخبرة شعب يبحث عن الدين منذ آلاف السنين.. وجاء الإسلام إلى مصر ودخل الناس فى دين الله أفواجاً.. وفى مصر أيضاً ظهر المجددون والمفكرون الإسلاميون العظام يجتهدون ويتحاورون ولم يكن المصرى وقتها (متدين بالفطرة) هذا التعبير الذى يحمل فى طياته دعوة عدم إعمال العقل... وهؤلاء المتدينون بالفطرة هم الذين صدقوا أن من سينتخب الإخوان المسلمين سيدخل الجنة.. وهم الذين هتفوا للملك الصالح والرئيس المؤمن واللاعب القديس.. ومولانا الشيخ المبروك وكانوا دائماً ما يؤكدون أن نوراً عجيباً يا أخى يشع من وجوههم.. سبحان الله!!. وهؤلاء هم أيضاً الذين يذهبون للأولياء والأضرحة بمطالب عجيبة، فالسيد البدوى مثلاً بالنسبة لهم ليس هادياً ودليلاً فحسب وإنما هو الذى يفتح أبواب العمل للعاطلين وخصوصاً فى الوظائف الحكومية.. وهم يلجأون إليه وينادونه بالجملة المعروفة «يا باب النبى يا سيد»، أما سيدى الإمبابى فهو مختص بالعمال والصنايعية والذين يشتغلون فى الفاعل.. ويقال إن سيدى الإمبابى كان أحد الأولياء الصالحين الذين شاركوا فى شرف إقامة مسجد السيد البدوى.. وكانت مهمته توريد أحجار البناء من جبل المقطم فى القاهرة إلى طنطا.. وكان السيد البدوى كلما نفدت منه الحجارة.. وهو فى طنطا.. ينادى على سيدى الإمبابى من طنطا.. بالعبارة الشهيرة.. «يا مقلق الحجر يا إمبابى»، فيسمعه الإمبابى وهو فى القاهرة!!!. وهكذا صار سيدى الإمبابى يحمل على عاتقه مهمة مساعدة كل من يناديه لإتمام أى عمل من أعمال البناء.. ويُقال إن الإمبابى كان يحب أكل الترمس ولذا لا تعجب حينما ترى حول ضريحه مئات العربات المليئة بالترمس.. ولذا كثيراً ما يُسمع مريدوه وأتباعه ينادون عليه «شللاه يا سيدى يا بتاع الترمس!!».. أما أم العواجز وهى السيدة نفيسة رضى الله عنها.. فهم يذهبون إليها حينما يشكون مرضاً فى أعينهم وفى مقامها الكريم قنديل به كحل.. كل من يتكحل به يزول المرض من عينيه.. أما «الباتعة» وهى السيدة زينب رضى الله عنها فهى أيضاً ذات سر باتع وتحقق أمانى وطلبات الفقراء والمحتاجين، وكثيراً ما نسمع أحدهم يهتف: يا عدوى.. وسيدى العدوى متخصص فى العثور على الأشياء المفقودة.. أما المرأة التى لا يعيش لها أولاد فتذهب إلى مقام سيدى أبوالريش، وهى تتوسل وتتضرع إليه «يا أبو الريش إنشالله يعيش».

هل ترون يا أعزائى هذه الآلاف المؤلفة من المصريين الذين يتزاحمون أمام الأضرحة والمقامات وفى الموالد المرتبطة بالأولياء الصالحين يطالبونهم بتلك الطلبات الدنيوية الزائلة دون أن يعرفوا ما تمتلئ به سيرتهم العطرة من قيم الكفاح والعمل والتسامح والصبر؟.. وهل ترون هؤلاء الشباب المغيبين المنجذبين الذين لا يسمعون كلمات الأغانى ولا يستعذبون ألحانها وإنما يرقصون خلفها ويتنططون فى حالة هيستيرية.. وفى المباريات لا يتفرجون على لمسات فنية ولا يستمتعون.. وإنما يعطون ظهورهم للاستاد وللمباراة.. وهم يقفزون ويصرخون ويهتفون حتى هؤلاء الذين يعتقدون أن السيسى نبى معصوم، وأنه سيمر على الصحراء فتخضر دون أن يبذلوا أى جهد.. كل هؤلاء المجاذيب.. هم جميعاً – للأسف – متدينون بالفطرة!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية