لولا قلة من رفقاء الطريق مازالوا على قيد الحياة، لازدادت غربتى وتوحشت، أبوح بهذه الغربة بلا تحفظ مادام لى «قلب ينبض» وصدر لم تهاجر منه الدهشة، ومنذ انقسمنا وتشتتنا أصبح الميناء الذي ترسو عليه سفينتى هو صدر صديق، وفى هذا الميناء الاستثنائى أتخلص من حمولتى وأثقالى، ولقد بدأت هذه الموانئ تتناقص- بالرحيل- يوماً بعد يوم، ولأن الموت يحاصرنا والعيون تصافح الجثامين ليل نهار، نضبت الدموع، وربما فقد الموت بعضاً من جلاله، والغربة بمعناها الشائع هي التواجد في مجتمع آخر ويتحقق هذا بالسفر.
ولأنى عشت الأسفار طول عمرى حتى أصبح عدد جوازات سفرى عشرة، وتحمل أختام مطارات العالم، فما عاد السفر له نفس بهجة الاكتشاف الأولى كما مواعيد اللقاء في الحب الأول، عندما كنت أسافر، كنت أشعر أنى على موعد مع امرأة، أقابلها لأول مرة، ذلك أنى اعتبرت أن لى صديقات من مدن العالم، ولكل واحدة طعم ورائحة، وحال لقاء أصدقاء تتفتت غربتى، فما أحلى لقاء العقول وعطر المحبة والإبحار في الملكوت، وللخلاف والاتفاق حرارة.
ولقد وقعت في حب مدن ألمانيا لأنها «جادة» حين العمل و«مجنونة» حين السهر، ولا تخلط الهزل بالجد مطلقاً. وحين تكثر الأسفار والحقائب والطائرات وربط الأحزمة، استعداداً للهبوط، تحدث حالة من السأم، ويصير السفر عبئاً! وحين كانت مصر هي مصر، كان السفر متعة، فأنا أطمئن عليها، اطمئنان الأم على وليدها، وحين صارت مصر غير التي أعرفها، تضخم القلق عليها ولم يعد للسفر تلك الرعشة التي يحس بها الأحباب وهم يلتقون.
أصبح السفر داخل البشر هو أحلى الأسفار ولا يتحقق هذا إلا من خلال من يمثلون لى «ونس العمر» وهم حفنة من الأصدقاء والصديقات، أجد نفسى معهم وهم مرايا الذات، وهم ميناء الوصول، لكن غربتى تزيد وهم يتناقصون مع أنه دستور الحياة، صارت أسفارى داخل النفوس قليلة بل نادرة، كنت أرى صديقاً من هؤلاء «الحفنة» منذ أيام وأفرغت في أذنه حمولتى من الأسئلة والتساؤلات حتى أكاد أقول إنى «اغتصبت» أذنه، كنت أشعر طيلة جلستى بخدر الونس اللذيذ، بطعم الألفة من جيل واحد، بشفرة سرية في النقاش لا مكان فيها لصوت عال أو لفظ جارح أو فهم خاطئ، لا مساحة فيها لأى قبح، وحين انصرفنا وذهب كل منا في طريق داهمتنى أعراض الغربة!
-1-
فاتن حمامة: حلو ومر!
فاتن حمامة كانت ونساً في العمر، كنت أراها دون أحاديث صحفية أو لقاءات تليفزيونية، كانت بنت المنصورة عاشقة حقيقية لتراب مصر، كانت تتكلم في السياسة كما عضوة في حزب له تاريخ، وكانت تنتفض من الخوف على مصر في زمن الإخوان، كانت ضحكتها مشروخة والأسى يكسو عظامها، ويوم هجرت عمارة ليبون في الزمالك لتعيش على أطراف القاهرة، كانت تهرب من الصخب بكل ألوانه، كانت تستخدم التليفون الأرضى في حواراتنا الخاصة، ولم أكن بالنسبة لها «صحفى» فهى التي منحتنى رتبة صديق، وتستطيع أن تقول معى ما لا يمكن أن يتحول عند أحد صبيان المهنة إلى مانشيتات وانفرادات، حتى يوم رحيلها كان «الانفراد» به أهم من الحزن الموجع على فراقها، لكنها مهنة لا قلب لها، وأسنان المطابع شرسة لا تعرف الرأفة ودقات المواقع والبوابات كما الذئاب الجائعة تعوى في الصحارى بحثاً عن فريسة، لم تختلف فاتن حمامة وأنا إلا مرة واحدة حين كتبت عن فيلمها «يوم حلو ويوم مر» إنه يوم مر ويوم أمر!
كان الخلاف حضارياً، غضبت وعاتبت وكان العتاب بحجم صداقتنا، ولأنى كنت ألتقى مع الأيقونة في زمن الروقان كان صوتها هادئاً ولا يعلو مطلقاً إلا حين تتكعبل في حجارة غباوة، كانت تنوى أن تترك لنا «مشوار عمرها» ورشحتنى للمحاورة، واختارت طاقم التصوير والإضاءة بنفسها حتى «كورنر» الحديث والبوح، وطلبت منى أن يكون الحوار بنفس عفوية حوارى مع الموسيقار محمد عبدالوهاب في «الموسيقار وأنا»، والأستاذ محمد هانى يعرف جميع التفاصيل حول الاتفاق مع فاتن حمامة، ولديه مساحة كبيرة برامجية في الفضاء التليفزيونى، وطلق الصحافة من أجلها، ولست أدرى الظروف التي حجبت ظهور المشروع الذي كنت أعتزم أن تكون شهادة فاتن حمامة على الفن المصرى صانع وجدان شعب. كنت أعتزم ألا يكون الحوار سرداً لحكايات على لسان فاتن حمامة بقدر ما كان رأياً في حقبة هامة عاشتها سينما فاتن حمامة، كانت «تونة» في القضايا الوطنية «تتظاهر» بالفن لا بالهتاف في ميدان، ولو تم المشروع بلا عثرات، لكان شهادة على عصر من الفن.
كنت أعلم رغبتها في الرحيل دون سرادقات عزاء، وكان هذا يعكس رأيها في الناس والموت، إن أفلام فاتن حمامة مع مخرجين ونجوم من مختلف الأجيال خير «بصمة» تركتها الأيقونة، خير ألف مرة من القرار الغبى لنزع اسم مدرسة في قلب الدلتا «قها قليوبية» بلد زوجها الفاضل و«لطع» اسم فاتن حمامة على المدرسة، مما رفضه أهالى القرية جملة وتفصيلاً، وما قيل يومئذ هو أكبر «إهانة» لأعظم ممثلة عرفتها الشاشة المصرية، وما كانت فاتن حمامة أن توافق على «لطع» اسمها بهذا الحمق، لعلها تتألم في قبرها وربما يصلها صهيل حزنى من الموقف المخزى، إنه مسمار في نعشها لا تستحقه وبدلاً من الاحتفاء والتكريم مثلما كان في وداع الأبنودى، كانت «المهانة» بعد رحيل فاتن بأسابيع. إننى أعتذر لها عن تلك الخطيئة وهى صاحبة المشوار الأعظم.
كانت فاتن، ونساً.... ومضت.