«انطلقى يا حبيبتي، افتحي الباب عريضًا على مصراعيه، واتركيه مفتوحا، وفي الطريق المفتوح ستجدينني يا حبيبتي، أنتظرك، لأني أثق بك، وأثق في قدرتك على الانطلاق، ولأني لا أملك سوى الانتظار… انتظارك».. بصوت حاسم حازم، رقيق الألفاظ، جميل المخارج، مفعم بالرومانسية قالها رجل كان يُضرب به المثل في القوة والصرامة والحزم وينعته منتقدوه بـ«الديكتاتور».
لكن هذا «الديكتاتور» الذي يدعو في عبارته السابقة إلى التحرر والحرية، لم يكن أبدًا- على الأقل من وجهة النظر النسائية- «ديكتاتورًا»، وإنما كان «صالحًا»، أو صالح سليم، الشاب الهادئ الوسيم الرومانسي، تعرفه الفتيات، من خلال أحد أفلامه، باسم «حسين»، الرجل الذي قرر أن يحب ويدافع عن حبه وحبيبته حتى النهاية وإن كلفه ذلك تعب ومشقة وسنوات من البعد والقسوة لكنه يعلم أنه سيجد في آخر المطاف ما أراد.
هذا «الرومانسي» هو نفسه المايسترو الذي سجل أجمل وأعظم سنوات النادي الأهلي حين كان لاعبًا به ثم رئيسًا له، وتحكي عنه الأساطير ليلًا نهارًا أنه كان صارمًا وقويًا بل وأحيانًا «فجًا»، لكن هنا الأمر يختلف فالذي يقف أمام فاتن حمامة كي يتغزل بها، وحتى وإن كان أمام شاشات السينما، والذي تختاره «فاتن» أن يكون حبيبها، حتى وإن كان في مشهد تمثيلي، يجب أن يُعرّف من وجهة نظر أخرى.
حين كانت تردد الجماهير الحمراء في المدرجات «صالح ..صالح»، جذبت السينما عيون نجم الكرة، وقدّم أول أدواره في السينما عام 1961، في فيلم «السبع بنات»، أمام الجميلات نادية لطفي، وسعاد حسني، وزيزي البدراوي، ومن إخراج عاطف سالم، وأدى في الفيلم دور «نبيل» الشاب الرياضي الخلوق الذي يحب «أحلام»، التي أدت دورها نادية لطفي، لكنه يموت في حادثة «مفجعة» أثناء سفره إلى أوروبا، فتعيش «أحلام» على ذاكره مستأنسة بسيرته العطرة وذكرياته التي ملأت حياتها حبًا وإيمانًا بالحياة.
ووفقًا لما ذكره الكاتب سلامة مجاهد، في كتابه «صالح سليم.. أبيض وأسود»، فإن ترشيح «صالح» لهذا الدور جاء عن طريق الفنان أحمد رمزي، الذي كانت تجمعه به علاقة صداقة قوية أهلته لمعرفة الفنان عمرالشريف، الذي كان بدوره صديقًا لـ«رمزي»، فأصبح بالتالي صديقًا لـ«صالح»، فأدت تلك الصداقة في النهاية إلى ترشيحه للفيلم الأول «السبع بنات»، حيث أراد النتج حلمي رفلة الاستفادة من شعبية «صالح» في الكرة، وأقنع عاطف سالم بذلك.
وقع «صالح» على عقد فيلمه الأول، الذي لم يفهم من بنوده شيئًا، كما ذكر «مجاهد» في كتابه، وتسلم «عربون»الفيلم بقيمة 50 جنيهًا من أصل 150 جنيهًا كان أجره عن الدور، ثم بدأ التصوير السينمائي ووقف للمرة الأولى أمام عدسات الكاميرا هذه المرة بطلًا سينمائيًا لا كرويًا، ثم بدأت متطلبات السينما ومقتضياتها تفرض ثوابتها على «صالح» حين طُلب منه أن يدخل غرفة المكياج فرفض، لكن فريق العمل أصر فاستسلم ثم أعلن أنه نظر في المرآة فلم يعرف نفسه.
كانت تلك بداية «صالح» في السينما في دور بسيط ظهر فيه كضيف شرف، وكُتب اسمه على «الأفيش» بصيغة: «ولأول مرة لاعب الكرة الدولي، صالح سليم»، وكان «صالح» في أول فيلم له كالجميع، حتى الذين أصبحوا فيما بعد فنانين مصر الأوائل، قلقًا ومتوترًا، وربما ساعد ظهوره كضيف شرف في أن يمر خفيفًا هادئًا على الجمهور منذ اللحظة الأولى.
بدورهم، لم يعجب عدد كبير من النقاد السينمائيين بدور «صالح» في الفيلم، ورأى البعض أنه «دخيل» على المهنة، في حين أعرب نقاد رياضيون عن قلقم إزاء توجه لاعب الكرة المشهور إلى السينما التي ربما تشده إليها وتنسيه «الساحرة المستديرة»، أما «صالح» فلم يكن هذا أو ذاك بل كان أكثر حزمًا من الرأيين ورأى أن تلك التجربة «فاشلة».. قولًا واحدًا.
تلك التجربة كررها «صالح» عام 1962، لكن كبطل يقدم الدور الأول في فيلم «الشموع السوداء»، أمام نجمة في عالم الغناء كانت في أوج شهرتها، المطربة نجاة الصغيرة، وقدم هنا دور الأديب الأعمى، أحمد عاصم، الذي فقد إيمانه بالحب والحياة بعد خيانة حبيبته له، وأصيب بالعمى وكان آخر مشهدًا رآه في الحياة هو حبيبته بين يدي شخص آخر، فقرر أن يعيش في صومعة لا يدخلها أحد، حتى اقتحمتها قسرًا «إيمان»، الممرضة التي سيرى الحياة بعيونها من جديد.
أقنع «صالح» بتقديم هذا الدور مخرج الفيلم، عزالدين ذوالفقار، الذي رأى وفقًا لحديث «مجاهد» أن نجم الأهلي يحتاج إلى عدة دورات تدريبية على التمثيل والإلقاء لا أكثر، وبالفعل خضعا معًا لعدة جلسات انتهت ببدء تصوير فيلم «الشموع السوداء»، الذي كان أجره فيه 300 جنيهًا.
عادت مقتضيات السينما تفرض قواعد «السخيفة» على «صالح»، فهو رجل يلتزم بالمواعيد ويعرف كيف يكون مثالًا يحتذى به، أما العاملون في السينما فربما لا تعنيهم المواعيد كثيرًا، وهو ما أغضب «صالح» بشدة لدرجة أنه قرر ترك الفيلم خلال التصوير والذهاب إلى الإسكندرية، ولكن وفقًا لرواية «مجاهد» في كتابه، فإن «ذوالفقار» ظل يطارده ويرسل له مساعديه إلى باب البيت والنادي، وظل يسترضيه حتى يوافق على استكمال تصوير الفيلم.
كانت شكوى «صالح» غريبة للغاية، فهو بجانب شكواه المستمرة من عدم احترام المواعيد إلا أنه كان متضررًا إلى حد كبير من صوت «نجاة» المنخفض، ومن كثرة طلبات إعادة التصوير في كل مشهد، وغيرها من الأمور السينمائية البحتة التي لم يحبها «صالح».
وكانت تلك التجربة هي الأشهر له على الإطلاق، فتعلق الجمهور بالشاب «المعقد» الذي تتحول حياته من الظلام إلى النور بفضل الحب، وربما تعلق أكثر بصرامته وحزمه في البداية ثم رقته ورومانسيته في النهاية، وهناك ملايين لا تنسى أنها رأت نجمها الكروي المحبوب بطلًا رومانسيًا مغوارًا يستطيع أن يعبر عن حبه وأن يعيش قصة حب مختلفة، وهناك آخرين مازالوا يتذكرون تعبيرات وجهه حين كان يسمع «إيمان»، أو «نجاة» تشدو بكلمات قصيدة «لا تكذبي».
وهنا كان «صالح» مختلفًا، ورغم انتقاد البعض له في ثاني تجاربه السينمائية، إلا أن لا أحد يستطيع أن ينكر أن الدور كان صعبًا ويصعب تقديمه على عدد كبير من الفنانين المحترفين، فهو هنا أعمى لا يرى، ويعاني من تقلبات نفسية ومزاجية حادة، ويتحول من شاب هادئ وديع وأديب يعشق الخيال، إلى رجل فظ غليظ لا تحركه المشاعر، ثم ينتهي به الحال إلى شخص ثالث يعرف الحب صدقًا، وبالطبع تلك التحولات كانت تتطلب ممثلًا قويًا لدرجة كبيرة، وكان قبول «صالح» للدور تحدي واضح لنفسه وللآخرين.
وتقول عنه المطربة نجاة التي عملت معه في الفيلم، في تصريحات نقلتها مجلة «الأهلي»، عام 2002: «كان يمتاز بصفات نادرة خلال البروفات والتصوير منها الانضباط والدقة في الحضور المبكر والحرص على الأخذ بوجهات نظر الآخرين دون جدل، وكان عندما يتلقى التهاني من زملائه على نجاحه في أداء دوره كان يرد بتواضع شديد ويعلق قائلا: فيه أحسن من كده.. بس أنتم بتجاملوني».
وتؤكد حديثها الفنانة أمينة رزق التي قدمت دور أمه في «الشموع السوداء»، قائلة: «كان رائعا واقترب من مستوى المحترفين لدرجة أثارت دهشتنا جميعا لأن الممثل الجديد الذي يقف أمام الكاميرا لأول مرة غالبًا ما تظهر منه بعض الهنات، ولكن صالح سليم كان متمكنًا من التمثيل، لهذا رحنا نتساءل لماذا لم يستمر في التمثيل، ولكن يبدو أن الكرة ومتابعة شؤونها أخذته وهذا من سوء حظنا وسوء حظ الفن والسينما».
في عام 1963 جاءت التجربة الأهم – على الأقل نظريًا- في تاريخ صالح سليم الفني، حين قدم دور الشاب الأسمر الواثق من نفسه، المؤمن بالحرية والتحرر، والرافض لقيود المجتمع وسطوته، ويتطوع للعمل مع الفدائيين في بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي، كما وصفته الكاتبة لطيفة الزيات، في روايتها المعنونة «الباب المفتوح» وقُدمت في فيلم يحمل نفس الاسم.
ويؤكد «مجاهد» في كتابه «صالح سليم.. أبيض وأسود» أن «صالح» وافق على الفيلم فقط من أجل فاتن حمامة، خاصة أنه اقتنع أنه لم يُخلق للتمثيل بعد التجربتين السابقتين، لكنه لم يستطع أن يقول كلمته الشهيرة «لا» أمام «السيدة فاتن».
كان الفيلم مختلفًا بكل المقاييس، فهو مأخوذ عن رواية هامة تدعو للتحرر الفكري والسياسي والاجتماعي، ومن إخراج هنري بركات، الضليع في الإخراج السينمائي، ومن بطولة فاتن حمامة، التي يكفي وضع اسمها على أفيش فيلم لا قصة كي ينجح نجاحًا عظيمًا، ودور «حسين» هو محور الرواية والفيلم معًا، ويمثل تيار الحب والحرية التي أرادت «الزيات» غرسها في قصتها «الجميلة».
عمدت «الزيات» في قصتها أن يكون «حسين» رمزًا لكل المعاني التي خسرتها «ليلى»، فيصبح الأب والأخ والحبيب والوطن والحرية التي سُلبت منها باسم العادات، والصوت الذي كتموه إياها باسم التقاليد، فرسمت الكاتبة شخصية «حسين» رجل متحرر مثقف وطني ورومانسي يخلق لـ«ليلى» عالما بديلا عن هذا العالم المليء بالكذب والخداع والعبودية، وحاول جاهدا بكل ما أوتي من قوة إيقاظ مشاعرها ورغبتها في الحرية والحياة حتى وإن لم تحبه هو أو تقرر الارتباط به.
هنا ظهر «صالح» رجلًا آخر، فهو الذي لعب الكرة لسنوات لم يكن يومًا فتى أحلام الفتيات كما أصبح بعد هذا الفيلم، لدرجة أن جيل حالي من «الجنس الناعم» يؤمن أنه لا رومانسية ولا نموذج أكثر مثالية من تلك التي قدمها «صالح» بصوته وأدائه في الفيلم، لدرجة جعلت كاتبة شابة تكتب في موقع «نون» قائلة: «ولأن الله يعلم أن الإنسان كان جَهولًا خَلَق لنا رجالًا مثل (حسين)، ذلك الرجل الذي آمن بحبيبته حتى وإن كانت لا تؤمن هي بنفسها».
ورغم أن الرواية تحمل الكثير من الفصول الرائعة إلا أن رسالة «حسين» الذي جسد شخصيته في الفيلم، صالح سليم، إلى حبيبته «ليلى»، التي قدمت دورها فاتن حمامة، كانت أهم ما جاء في الرواية وأفضل ما وثقه الفيلم، كانت كلمات «حسين» هي الأغنية الجميلة التي ظلت تتردد في عقل «ليلى» وتحرمها النوم وتفسد عليها تلك الحياة الكئيبة العابسة التي اختارتها بعد أن ذهب إيمانها بالحياة والحب والحرية.
كان صالح «متمكنًا»، «واثقًا»، و«رائعًا» حين قال: «وأنا أحبك وأريد منك أن تحبيني، ولكني لا أريد منك أن تفني كيانك في كياني ولا في كيان أي إنسان، ولا أريد لك أن تستمدي ثقتك في نفسك وفي الحياة مني أو من أي إنسان، أريد لك كيانك الخاص المستقل، والثقة التي تنبعث من النفس لا من الآخرين، وإذ ذاك عندما يتحقق لك هذا لن يستطيع أحد أن يحطمك لا أنا ولا أي مخلوق».
ويكمل في هدوء يغمره الحب والإيمان بالحياة قائلًا: «فلا تنحبسي في الدائرة الضيقة، إنها ستضيق عليك حتى تخنقك أو تحولك إلى مخلوقة بليدة معدومة الحس والتفكير.. انطلقي يا حبيبتي، صلي كيانك بالآخرين، بالملايين من الآخرين، بالأرض الطيبة أرضنا، بالشعب الطيب شعبنا».
هذا «المديح النسوي» لم يشفع لـ«صالح» عند كثيرين، على رأسهم النقاد، الذين قالوا، وفقًا لما ذكره «مجاهد»، إن إعطاء البطولة لنجم الأهلي كان «مؤامرة ضد بركات وفاتن، وكانت أشد الأقلام قسوة على «المايسترو» هذا الذي كتبه الصحفي لويس جراس، الذي ترأس تحرير مجلة «صباح الخير»، حين قال في مقال أثناء عرض الفيلم: «نجم الكرة اللامع أصابته الخيبة في مجال السينما, المسكين جذبته الأضواء حتى صرعته وتركته للجمهور، والكثيرون يكنون له الحب والإعجاب الشديد, ويمطرونه بالقفشات والتعليقات طوال فترة ظهوره في فيلم الباب المفتوح، والذي استرعى انتباهي في ليلة الافتتاح أن الجمهور من معجبيه ومحبي فنه في لعبة كرة القدم, لم يحاسبه على هفوته ولم يعلق علي كبوته, استقبلوه بالهتاف والتصفيق وودعوه هم يحملونه على الأعناق, ولكنهم همسوا لبعضهم بأنه ممثل فاشل، ودار الحديث بين الكثيرين عن فشل صالح سليم أكثر مما دار عن قصة لطيفة الزيات الممتازة, طغى صالح سليم وفشله على أغلب الأحاديث و التعليقات, فـ(صالح) يؤكد فشله السينمائي في هذا الفيلم للمرة لثانية, والجديد في الموضوع أنه فشل الرجل الناجح، فشل نجم مشهور أطلق عليه الجمهور لقب المايسترو تقديرًا لمهارته في كرة القدم. ولعل الكثيرين من أصدقاء صالح سليم سينصحونه بعد هذا الفيلم بالابتعاد عن السينما لأنه لا يصلح لها, وكفاه أنه لدغ من جحر واحد مرتين».
بتلك الكلمات وضع «صالح» كلمة النهاية في مشواره السينمائي ورفض الاشتراك في أي عمل سينمائي آخر حتى وفاته، ويقول «مجاهد» في كتابه إنه: «ليس لدى صالح سليم أي نوع من الحرص على مشاهدة الأفلام التي شارك في تمثيلها».
ليس واردًا التشكيك في أن نجومية «صالح» في الكرة هي التي جعلته ينتقل للتمثيل، لكنه ورغم كثرة الأقاويل التي تحدثت عن نجاحه أو فشله في هذا المجال، إلا أنه أضاف كثيرًا إلى تلك الأعمال التي شارك فيها، لكن المؤكد أن تلك الأعمال لم تضف لـ«صالح» وزنًا، ليس لشيء ولكن فقط لأنه صالح سليم الذي لم تكن نجوميته بحاجة إلى زيادة كي تزداد حين يظهر نجمًا على شاشات السينما، فلم يكن يومًا بحاجة إليها بل سعت هي إليه كي توثق اسمه بحروف بارزة على أفيشاتها.