أثارت كلمات وزير العدل السابق المستشار صابر محفوظ، والتى رد فيها بالسلب على سؤال هل يمكن أن يلتحق ابن عامل النظافة بالنيابة، أثارت حالة من الغضب العارم من قبل غالبية المصريين، واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى بسحاب حاد ما بين راض لما قاله الوزير، متهمين إياه بالطبقية، مطالبينه بالاستقالة، وما بين مدرك أن ما قاله الوزير إنما يعبر عن واقع قائم فى البلاد، وبات مكوناً من مكونات الثقافة المصرية، ولكنه كغيره من مكونات العنصرية والتمييز فى مجتمعنا، ما كان له أن يتحدث عنها علانية، فالتمييز يمارس كأمر واقع ولا مجال لشرائح معينة من الطبقة الدنيا أن تلتحق بوظائف معينة، وهناك من دافع عن وجهة نظر الوزير، مؤكداً أن الرجل قال الحقيقة ولم يدفن رأسه فى الرمال، وهو ما أكده الوزير عقب تقديم الاستقالة، حيث شدد على أن ما قاله إنما يعبر عن الواقع القائم فى مناصب محددة.
بعدها مباشرة، فجر الصديق العزيز د. خالد منتصر قضية أخرى تتعلق بحرمان الأطباء الأقباط من الالتحاق بأقسام النساء والتوليد بالجامعات المصرية، وهو ما أقر به رئيس جامعة القاهرة، الدكتور جابر جاد نصار، مؤكداً على استعداده لقبول من يكون مستحقاً من الأطباء الأقباط بأقسام النساء والتوليد بجامعة القاهرة، وبدا من الجدل حول هذه القضية وكأن البعض لا يعرف عنها شيئا فى حين أنها ممارسة بالفعل منذ سبعينيات القرن الماضى. والحقيقة أن حرمان الأقباط من الالتحاق بوظائف معينة يتجاوز أقسام النساء والتوليد بالجامعات المصرية إلى أجهزة سيادية فى الدولة المصرية، وهو أمر يمارس منذ عقود، كرسه السادات منذ تقلد السلطة فى البلاد عام ١٩٧٠ ومنذ أن أصدر التعليمات لوزارة العدل بإضافة بند الديانة فى توكيلات البيع والشراء التى تبرم فى الشهر العقارى حتى يعرف اتجاهات شراء الأقباط للأراضى والعقارات تحسباً لما أوصته به الأجهزة الأمنية من أن البابا شنودة الثالث يسعى إلى تركيز الأقباط فى مناطق جغرافية معينة وتحديداً منطقة وادى النطرون، وهو الأمر الذى تحمله توكيلات البيع والشراء عن طريق الشهر العقارى حتى يومنا هذا.
فى تقديرى أن القضية تعود إلى سياسات التمييز التى تمارس مجتمعياً وسلطوياً أيضاً، وبالمخالفة لما تنص عليه مواد دساتير البلاد المتعاقبة، فالتكوين يمارس ضد أبناء الفقراء والبسطاء جميعاً، وإذا كانت ثورة ١٩٥٢ قد أطاحت بالبعد الطبقى وفتحت مجالات الصعود الاجتماعى لأبناء الطبقة الفقيرة، فإن السادات الذى جاء من إحدى هذه الأسر تراجع عن السياسات التى أقرها عبدالناصر للعدالة الاجتماعية، وكرس التمييز الدينى، فقد زرع البذور ورواها ورعاها، وجاء مبارك فواصل سياسات الرعاية والعناية فسقطت الثمار المرة على رؤوس الجميع ودفع المجتمع المصرى ثمناً باهظاً لسياسات التمييز الطبقى، الاجتماعى والدينى والطائفى.
بدأ التدهور فى مصر بمجىء الرئيس الراحل أنور السادات الذى كان قدره أن يخلف رئيساً يتمتع بكاريزما، بحث الرجل عن سند للحكم أو أساس فلم يجد، فى وقت نشطت ضده الجماعات القومية واليسارية فى الجامعات المصرية ومن ثم قرر ارتداء عباءة الدين، تشكيل مجموعات إسلامية مسلحة فى الجامعات المصرية لضرب التيارين الناصرى واليسارى، زاد من جرعة التدين الشكلى وحرص على أن يبدو كذلك أمام بسطاء المصريين. نجح السادات فى أسلمة المجال العام فى مصر، وتمكن خلال سنوات قليلة من شق صف المصريين، عرف نفسه بالرئيس المؤمن ومصر بدولة العلم والإيمان ووصف نفسه بأنه رئيس مسلم لدولة إسلامية، فنشطت جماعات العنف وواصلت عمليات القتل بحق الأقباط، لاسيما فى صعيد مصر، ومع نهاية عقد السبعينيات كانت مصر على وشك الانفجار الدينى، فجاء اغتيال السادات على يد الجماعات التى شكلها ليحول دون انفجار مصر أو وقوع حرب أهلية أواشتباكات دموية واسعة النطاق. جاء مبارك وحافظ على معادلة السادات، لم يغذِ التشدد الدينى ولم يواجهه إلا فيما يخص أبعاد قوى الإسلام السياسى عن دائرة الحكم، حدد أبعاد المواجهة مع هذه الجماعات فى دائرة الحكم فقط، ترك لهم المجتمع ملعباً، وسلم لهم بالهيمنة على العملية التعليمية وعلى قطاع كبير من العمل الأهلى، كل ذلك كان لهم ولم يكن يتحرك ضدهم إلا عندما كانوا يقتربون من السلطة فى محاولة للانقضاض عليها. مارس لعبة تقسيم الأدوار مع جماعة الإخوان، حرص على وجودها فى الساحة السياسية وإبرام الصفقات معها، وتقديمها باعتبارها القوة الطاغية التى تمثل البديل الوحيد له ولحكمه، وبما أنها قوة متطرفة تكره إسرائيل والغرب، فإن حكمه ومهما كانت درجة السلطوية والديكتاتورية يعد مصلحة للغرب، لأن البديل هو حكم المرشد والجماعة.
حافظ مبارك على معادلة السادات فى استمرار التوتر الدينى والطائفى فى البلاد وتوظيفه سياسيا، وهى المعادلة التى أشرف عليها فى العقد الأخير من حكم مبارك وزير داخليته، حبيب العادلى وأثمرت ثماراً مرة تمثلت فى عمليات قتل لأقباط، الاعتداء على كنائس، والأخطر من كل ذلك إشاعة أجواء الكراهية الدينية والطائفية فى البلاد على نحو طال كافة فئات المجتمع المصرى وضرب مرتكزات كانت مستقرة للتعايش بين المصريين. وكان العام الأخير من حكم مبارك الأكثر دموية والأعلى احتقاناً منذ عام السادات الأخير فى الحكم (١٩٨١) ففى أوائل عام مبارك الأخير وقعت جريمة نجع حمادى، وفى نهايته وقع تفجير كنيسة القديسين وفى المسافة بينهما كانت هناك جرائم طائفية عديدة مثل جريمة قطار سمالوط وأحداث العمرانية.
تفجرت ثورة الخامس والعشرين من يناير رافعة شعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فقد تطلعت قطاعات من الشباب المصرى إلى العدالة الاجتماعية، فتح مجالات الترقى الاجتماعى والاقتصادى من خلال التعليم، تطلعت شرائح من الطبقة الدنيا إلى الترقى الاجتماعى والاقتصادى، بعد أن نالت حظها من التعليم العالى، وهو أمر كان يصب فى زيادة مساحة الطبقة الوسطى التى تمثل صمام الأمان فى التفاعلات الاجتماعية والتى تعتمد على التعليم كأداة من أدوات الترقى الاجتماعى، اصطدمت هذه الشرائح برفض النظام الذى كان يحافظ على نخبته مغلقة ويجدد فيها من نفس الأسر والعائلات، فأصيبت النخبة بالجمود والانغلاق وأوصدت الأبواب فى وجه الطامحين للترقى اجتماعيا ومن ثم اقتصاديا. فى نفس الوقت تزايدت حدة التمييز الشامل فى مجتمعنا المصرى، لاسيما الدينى- الطائفى. وقد تكرس كل ذلك فى زمن حكم المرشد والجماعة، وجاءت ثورة الثلاثين من يونيو لتعيد تصحيح مسار الثورة. ويبدو واضحا أن التمييز الاجتماعى، الاقتصادى، الدينى والطائفى يمثل تركة ثقيلة للغاية، بعد أن استقرت مكونات منه فى الثقافة وتحديدا المكون الشعبى والذى وصل إلى مؤسسات الدولة وأجهزتها. وفى تقديرى أن الإنجاز الأهم هنا يتمثل فى تعافى أجهزة الدولة ومؤسساتها من الآثار الجانبية لفيروس التمييز والطائفية وزيادة فعاليتها فى التصدى للجرائم البغيضة التى تقع بحق مواطنين مصريين لعوامل اجتماعية، اقتصادية، دينية وطائفية والتى ينبغى كشفها للرأى العام المصرى وتبنى حملة وطنية للتصدى لهذه الجرائم والبدء فى وضع خطة متكاملة لإبراء مصر من داء التمييز الطائفى والتعصب الدينى والذى أحسب أن الخطوة الأولى فيه تتمثل فى إصدار قانون لتجريم التمييز بكافة أشكاله وتطبيقه بكل حزم، ففى هذه المرحلة لابد من استخدام القانون لمكافحة التمييز والتعصب وفى مرحلة لاحقة تستقر قيم المواطنة والمساواة وعدم التمييز فى ضمير ووجدان المصريين وتعود كما كانت جزءا من ثقافة المصريين.