هنا «نكبة» فلسطين، ذاكرة التاريخ تراجعت بعد 67 عاما من التهجير القسري وارتكاب المذابح ضد الفلسطينيين وإعلان دولة إسرائيل في 15 مايو 1948!
فهل سقط حق الفلسطينيين بالتقادم بعد 67 عاما من الاحتلال؟ هل ضاع حق الذين أرغموا على النزوح قسرا والمهجرين الذين أصبحوا لاجئين مسجلين في أرشيف الأمم المتحدة بلا وطن فوطنهم هو «الشتات»؟ هل تبخرت أحلام الشعب الفلسطيني في إنشاء كيان ودولة مستقلة من الفتات الذي تمن عليهم به إسرائيل على حدود عام 1967 من خلال حل الدولتين المتنازع عليه أيضا؟! هل يستطيع الفلسطينيون رسم خريطة دولتهم بعد أن استلبتها جحافل المستوطنات ومسحت هويتها إلى الأبد؟ هل يستطيع الفلسطينيون حماية تاريخهم وجغرافيتهم بعد أن أحرقتهم نار الانقسام «الجيوسياسى» بما تبقى من فتات إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ هل هم قادرون على لم شتات أنفسهم بعد أن سحقتهم الانقسامات والخلافات السياسية والمصالح الحزبية وفتك بهم الحصار الاقتصادى؟
في الخامس عشر من شهر مايو من كل عام يحيي الفلسطينيون ذكرى النكبة، بالمسيرات والتظاهرات وإقامة المهرجانات الجماهيرية الملهبة للحماسة والمحفزة للمشاعر الوطنية، تتضامن مع هذه الاحتفالات الجمعيات والمنظمات الفلسطينية ومن يساندهم من منظمات عالمية وإنسانية بفعاليات وأنشطة إحياء لهذه الذكرى الأليمة، كي لا ينسى الناس فلسطين، وللمفارقة تقوم دولة الاحتلال الإسرائيلي بالاحتفال أيضا في اليوم السابق لهذه المناسبة 14/ 5 من كل عام بذكرى استقلال إسرائيل، الذي أعلن عنه بنفس التاريخ وكان ذلك قبل انسحاب القوات البريطانية من فلسطين بيوم واحد!
والحقيقة أن «نكبة» الفلسطينيين بدأت عندما تأكد زعماء اليهود من نية انسحاب بريطانيا، وقرروا في تل أبيب في مايو 1948 تشكيل برلمان وطني كممثل للشعب اليهودي والحركة الصهيونية العالمية يسمى «دولة إسرائيل»، وتقرر فتح باب الهجرة لكل يهود العالم للكيان الجديد، واعترفت بها الولايات المتحدة الأمريكية في اليوم التالي، ثم تتالى بعدها اعتراف معظم دول العالم ودخلت هيئة الأمم المتحدة عام 1949 .
ثم تلتها «نكبة» الانقسام الذي دمر ما تبقى من جغرافيا سياسية بين الضفة الغربية وقطاع غزة بفعل الفلسطينيين أنفسهم، عندما استولت حركة حماس على الحكم منفردة في قطاع غزة عام 2007، ومنذ ذلك الوقت والشعب الفلسطيني يبكي «نكبتيه»، غاضبا عاجزا مغلول الأيدي وإسرائيل في المقابل تحتفل بهز الكؤوس بانتصارها الذي حققته، ومازالت، بفعل العدوان الممنهج الذي تمارسه مدعومة بالحليف الاستراتيجي الأمريكي والمجتمع الدولي الذي لم يتخذ موقفا واحدا يردع غطرستها، منذ أن أصبحت حقيقة وواقعا ملموسا على الأرض مصنفا «كدولة احتلال»، فعلى الرغم من أن إنهاء بريطانيا العظمى لانتدابها على فلسطين، جاء بالتزامن مع إصدار قرارات للأمم المتحدة منها ما هو خاص بإقامة دولتين فلسطينية وإسرائيلية، ومنها المتعلق بعودة اللاجئين النازحين والمهجرين بسبب الحرب التي جرت، إلا أنه لم ينفذ أي من هذه القرارات حتى الآن!
أقصى ما قامت به المنظمة الأممية- رغم أنها أصدرت أكبر عدد من قراراتها حول فلسطين بالمقارنة مع أي قضية صراع أو خلاف أممي أخرى- هو غوث اللاجئين الفلسطينيين للحفاظ على حياتهم في مناطق وأماكن لجوئهم المختلفة، وبالنسبة للفلسطينيين فقد تحول الأمر مع الوقت إلى انتظار عدالة السماء لحل قضيتهم، بعد كل ما مر عليهم من نكبات وحروب وصراعات أفرغت المحتوى النضالي من مضمونه الأعم والأشمل، في ضوء تفجر الصراعات الداخلية المرتبطة بأجندات إقليمية ودولية، شتتت أهدافهم وأضعفت قوتهم المقاومة، فتفرقت بهم السبل، وبدلا من أن يتركز الصراع حول الهدف الجامع وهو تحرير الأراضي الفلسطينية من مغتصبيها، أصبح الهدف إثبات القوة والسيطرة على الأرض، بين جناحي الانقسام «فتح» و«حماس»، وتبنى كل منهما أجندة هي أبعد ما تكون عن مصلحة الشعب الفلسطيني أو تصب في بوتقة الهدف الأساسي وهو تحرير الأراضي الفلسطينية من المحتلين، بل إن الأخطر أن قضية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي التي كانت القضية الأم بالنسبة للعمل العربي المشترك، قد تراجعت وتوارت من جدول أعمالهم، وأصبحت لا تتعدى كونها «لازمة» أو «ضرورة» في حديث أي مسؤول عربي خالية من أي مضمون، محشورة وسط تصريحات الزعماء والقادة العرب لرفع العتب عنهم، بأن القضية الفلسطينية مازالت في الأذهان والوجدان!
فما قيمة هذا الوجود المجاني للقضية داخل الوجدان العربي؟! والشعب الفلسطينى يحترق كل يوم، ومقومات وجوده وصموده تتهالك يوما بعد يوم بالحصار الاقتصادي والسياسي، والزحف الاستيطاني على ما تبقى من أرضه لطمس هويته وانهيار أي أفق سياسي للحل، لم تعالج أي قضية مصيرية عاجلة للفلسطينيين، رغم هذا الاحتواء العربي الكبير المتمثل بالمؤتمرات والقمم العربية والمنح المالية التي أغدقوا بها على الفلسطينيين، لأنها كانت مجرد حبر على ورق لا قيمة لها ولم يتحقق منها شيء!! فأموال إعادة الإعمار التي خصصت لغزة لم يصل منها شيء، وغزة تعاني الحصار والركود الاقتصادي والفقر والبطالة وتوابع الحروب التدميرية والتجويعية، والانفصال الذي عصف ونكل بتواصلها مع الضفة الغربية، تعاني التواطؤ والإرهاب والتطرف والصراع، تعاني ازدواج الشرعية والسلطة والحكم.
أما الضفة الغربية والقدس الشرقية فصراعهما من نوع آخر، صراع على الوجود مع الاحتلال بالصدام المباشر والتصدي لمخططاته التي تسعى للتهجير والتهويد والتجريف والمصادرة لما تبقى من أراضيهم وأملاكهم وبالذات في القدس الشرقية، وسلطة عاجزة عن السيطرة أو حتى تسديد رواتب موظفيها أو توفير الخدمات لشعبها.
هل نتحدث عن «النكبة» ونجتر مآسيها وشجونها التي عصفت بالشعب الفلسطيني منذ 67 عاما؟! «نعم»، غير أن ما يعانيه الآن من نكبات ربما يفوق ما حدث قبل 67 عاما!! فعندما تكون نكبته في أبنائه وانشقاقاته وصراعاته الحزبية والسياسية، في وقت تخلى عنه فيه المجتمعان الدولي والعربي لانشغالهما في أزمات أخرى أكثر أهمية بالنسبة لهما، تصبح النكبة الحقيقية هي ما يعيشه الفلسطينيون الآن، وليس قبل 67 عاما يتباكون عليها في كل ذكرى جديدة تحل، والمستفيد الوحيد هو إسرائيل التي بذلت الجهد، وحاكت المؤامرت ونفذت الخطط حتى يصبح جل أمل الفلسطينيين في تحقيق دولتهم على جزء من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة لا يتعدى 22%، هذا ما تبقى لديهم من أمل! بعد أن أعلنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صراحة ودون مواربة أنه «ليس هناك ما يسمى حل الدولتين كما يطمح الفلسطينيون!».