ستون عاماً أو أكثر، والمنصب الرئاسى يشغله صاحبه بالاستفتاء وليس بالانتخاب، الاستفتاء على مرشح واحد فقط يرشحه البرلمان الذى يسيطر عليه هذا المرشح، ويكون على الناخب أن يكتب علامة صح فى حالة الموافقه، أو يكتب علامة صح فى حالة الرفض، وبالطبع كان الناخب يعزف عن هذه التمثيلية، وكانت أجهزة الإدارة الأمنية والبيروقراطية والإعلامية تتولى المهمة من الألف إلى الياء، من ترشح السيد الرئيس أمام نفسه، إلى فوزه بالاكتساح أمام نفسه أيضاً.
ثم بدأ هذا الوضع يتغير- من حيث الشكل- فى 2005م، حيث تنافس أيمن نور ونعمان جمعة مع حسنى مبارك، ثم فى 2012م، حيث تنافس شفيق مع مرسى فى جولة الإعادة، ثم فى 2014م حيث تنافس الصباحى مع السيسى.
عشرُ سنوات فقط هى كل تاريخنا مع فكرة الانتخابات الرئاسية، فترة قصيرة فى عمر الزمن، لم تسمح بنضوج التجربة، فمازالت الانتخابات الرئاسية أقرب إلى نظام الاستفتاء على شخص واحد، باستثناء انتخابات 2012م، فهى الوحيدة التى لم يكن يعرف الناس من هو الفائز فيها حتى لحظة إعلان النتائج.
موقعُ الرئيس محورى فى نظامنا السياسى، فهو يستطيع أن يتجاهل الدستور ويحكم بغير مرجعية مكتوبة ومعلومة، ويستطيع أن يؤجل البرلمان عدة مرات: بعد الرئاسة مباشرة إن شاء الله، ثم قبل نهاية 2014م بإذن الله، ثم فى أول 2015م بعون الله، ثم قبل المؤتمر الاقتصادى بتوفيق الله، ثم مع المؤتمر الاقتصادى بمشيئة الله، ثم قبل رمضان بإرادة الله، ثم بعد كعك العيد إذا أراد الله، وهكذا إلى ما شاء الله.
موقعُ الرئيس عندنا مُعضلةٌ دراميةٌ كبرى: الرئيس نجيب خرج من الرئاسة إلى الحبس الإجبارى، الرئيس عبدالناصر خرج من الرئاسة بالهزيمة التى قضت عليه حياً، الرئيس السادات خرج من الرئاسة بالاغتيال، الرئيس مبارك خرج من الرئاسة بعد أن خلعه الشعب، الرئيس مرسى خرج من الرئاسة بعد أن عزله الشعب. خمسةُ رؤساء لم يخرج واحدٌ منهم خروجاً مُشرفاً، النهاياتُ الخمس ملحمة كابوسية مُظلمة، تحتاج إلى مُخرج سينمائى موهوب، يجعلُ منها فيلماً يُخاطب ضمير الإنسان فى أى مكان من العالم بل فى أى زمن من الأزمان. نعم: مصارعُ الرؤساء ونهاياتُهم وخواتيمُ أيامهم فى قصور الحُكم لحظاتٌ استثنائية مشحونة بذروة التناقض الضخم بين العزة والمذلة، والشعب يتفرج على مصارع رؤسائه وهُم أول من حكموه من أبنائه، كما كان يتفرج على الغرباء من الحكام الذين تعاقبوا علينا أكثر من ألفين وثلاثمائة عام.
ما أريدُ التأكيد عليه: الرؤساء عندنا يخرجون من الحكم بطريقة سيئة جداً ومُخزية جداً ومُذلة جداً، لسبب بسيط جداً: لأنهم يدخلون قصور الحكم بطريقة مُهينة جداً، يدخلون بالاستفتاء، أو بما يشبه الاستفتاء.
هذه المُعضلة التاريخية لا يكفى لحلها أن ينص الدستور على الانتخاب بدل الاستفتاء، أو أن ينص الدستور على تحديد الرئاسة فى فترتين بدل أن كانت مستباحة إلى أبد الآبدين. لكن- مع هذا وذاك- يلزم نزع القداسة الكهنوتية عن المنصب الرئاسى، يلزم إباحته بالمعنى الإنسانى المُشمس، والأصل فى الأشياء الإباحة، يعنى تفكيك جبال الأساطير التى يرتفع فوقها، يعنى أن يكون الرئيس إنساناً طبيعياً، يبدأ مرشحاً، ثم يفوز، ثم يدخل القصر ليمارس موهبة الزعامة إن كانت فيه، وليمارس خصائص القيادة حسبما يفهمها، وليؤدى مهمات المنصب المنصوص عليها فى الدستور دون نقصان منها أو زيادة فيها إذا كان من العيار العادى من القادة، ثم يخرج من القصر فى نهاية ولايته، موفور الكرامة، مصون المكانة، يعيش مواطناً آمناً محترماً بين جموع المواطنين، دون حاجة لأن نكرر المشهد المعروف: يدخل «عزيز مصر» ثم يخرج «مأساة مصر».
الحل بوضوح شديد: لازم يكون عندنا طبقة من الرجال العظام، المؤهلين للرئاسة، نعدهم أو تعدهم الأحزاب أو تعدهم الدولة أو يعدون أنفسهم، الرؤساء لا يأتون من الفراغ، ولا من المصادفات، ولكنهم ينبتون من التربة السياسية، ونحن عندنا بيئة سياسية صخرية حجرية صلدة قاتلة لأى نبتة يمكن أن تنبت فيها، وهذا يفسر لك: لماذا نعترف بأنه ليس عندنا بدائل أفضل لمن يكون فى السلطة؟! ولماذا نعجز عن الإجابة عندما نُسأل: وما هو البديل؟! بل نسكت عندما يُقال لنا: من تقترح رئيساً للوزراء مثلاً؟
آخرُ الكلام: لن ننضج سياسياً دون أن نجرب كل فكرة جديدة صالحة، ولن تنجح لنا تجارب دون أن نقع فى أخطاء، وأرجو فى الانتخابات الرئاسية القادمة 2018م، أن تكون عندنا بيئة سياسية تسمح بانتخابات ليست مثل الاستفتاءات.