كنت خارج مصر عندما تابعت تعليقات الإعلام على زيارة الرئيس لطريق القاهرة- الإسكندرية الصحراوى فى الصباح الباكر لمتابعة مشروعات التطوير. كان هناك من خاف عن حق على الرئيس وأمنه، كما كان هناك من تساءل عن حق أيضا عما إذا كانت هذه الزيارة هى مهمة رئيس الجمهورية أم أن آخرين عليهم متابعة المشروعات المختلفة. تذكرت ساعتها ما ورد فى التقرير الاستراتيجى العربى الصادر عن مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية لعدة سنوات عن الكيفية التى يقضى بها الرئيس وقته. كان صاحب الفكرة الزميل د. جهاد عودة، وجوهرها كان أن كل ما يوقع عليه الرئيس من قرارات وقوانين يصدر فى الجريدة الرسمية. وهكذا أصبحت لدينا معلومات كثيرة عن قدر غير قليل من عمل الرئيس، فقد كان يمكننا تصور أنه وراء كل توقيع لابد من مذكرة رسمية، وربما عدة مذكرات يعلوها ملخص من صفحات قليلة يشرح الموضوع، والجهات التى جرت الاستشارة فيها، والقوانين التى يستند لها، ويطلب من الرئيس التوقيع على قرار له صيغة تنتهى بكلمات «وينفذ من تاريخه»، أو شيئا من هذا القبيل.
لا أذكر كم من السنوات قام مركز الأهرام بهذه المهمة، ولكننى أذكر أنه انتابتنا شفقة كبيرة على الرئيس حيث وجدنا أنه يقضى وقتا طويلا يصل إلى ٧٠٪ مما تصورنا أنه الوقت الذى يخصصه للعمل فى أمور لا تبدو بالغة الأهمية أو ذات أهمية استراتيجية. فلم يكن مفهوما لماذا يقرر الرئيس إقامة حديقة دولية فى مدينة دمنهور؛ أو يقر قرضا لإنشاء وحدة طبية فى مدينة الأقصر؛ أو يقر ترقية من نوع أو آخر لشخص ما بلغ مرحلة وكيل الوزارة التى سوف يخرج بعدها على المعاش خلال شهور قليلة. على أى الأحوال توقف العمل فى المشروع لأسباب لا أذكرها، ولكن ما ورد فى ذهنى أيامها هو أنه رغم كل ما يقال عن السلطات الهائلة التى يملكها رئيس الدولة، والملامح «الفرعونية» لمنصب الرئيس، فإنه فى الحقيقة غارق تماما فى موضوعات وقضايا يمكن لآخرين القيام بها، بل وأنها تأتى على حساب موضوعات ربما يراها الرئيس فى مقدمة برنامجه السياسى.
الرئيس السيسى لديه مهام جسام، لا يقل أى منها فى الأهمية عن إدخال مصر إلى القرن الحادى والعشرين، وتجديد الفكر الدينى، وتحويل مصر إلى دولة متقدمة، ولن ننسى أبدا الانتصار فى الحرب ضد الإرهاب. ولكن كيف يتأتى له تنفيذ برنامجه بينما رئاسة الجمهورية ليست مؤهلة لكى تضع له خريطة للزمن Time Line تكفى لتحقيق هذه الأهداف. على العكس من ذلك فإنها تغرق الرئيس فى اجتماعات بعضها يستمر لخمس ساعات كاملة، لأنه بدلا من أن يكون له مستشار واحد فى كل ملف من الملفات المهمة (الاقتصاد والأمن فى المقدمة)، ويقوم بديلا عنه فى استشارة من يراه، فإن رئيسنا أصبح لديه مجلس كامل من عشرات المستشارين فى كل قضية، يستحيل عمليا مع عددهم الهائل تقديم مشورة حقيقية. وبدلا من أن يكون هناك لدى الرئيس كبير لموظفى الرئاسة يقوم بمتابعة تنفيذ قرارات الرئيس، والتنسيق مع عدد معقول من المستشارين، فإنه يتحول من مسؤول سياسى بالدرجة الأولى إلى شخصية «بروتوكولية» وإدارية.
النتيجة كما كان الأمر فى عصور سابقة كتبنا عنها فى حينها أنه صار لدينا رئيس قوى بالشعبية والكاريزما والرؤية لمستقبل البلاد، ولكن لديه رئاسة لا تقدم العون المطلوب للقيام بالمهمة السامية. الرئيس، بحكم التعريف السياسى والقانونى والدستورى هو قائد البلاد الذى يأخذها إلى اتجاه يحقق طموحاتها خلال السنوات المقررة لحكمه، وممثلها فى المحافل الدولية بالعداء والخصام والتعاون والتحالف من أجل حماية مصالحها العليا، وهو قبل هذا وذاك يقف على رأس السلطة التنفيذية المنوط بها تعبئة موارد البلاد لتحقيق أهدافها. أداة الرئيس الأولى لأداء هذه المهام هى «مؤسسة الرئاسة» التى تتحول سواء فى النظم الرئاسية أو شبه الرئاسية مثلنا إلى أن تكون هى «الموتور» الذى يحرك باقى أركان السلطة التنفيذية بما فيها مجلس الوزراء والمحافظين، وكذلك التوافق مع السلطة التشريعية على الأجندة الخاصة بالقوانين فى الدولة؛ ورغم الاستقلال المقدر للسلطة القضائية فإن هناك أدوات كثيرة تستخدم للتفاهم والتعرف على التفسيرات المختلفة للقوانين ومدى تعارضها مع الدستور.
فى مصر جرت العادة منذ وقت طويل على أمرين فيما يخص المؤسسة المهمة فى الدولة: أن لا أحد يعرف من هم العاملين حقا فى «الرئاسة» أى الذين يفترض منهم تقديم النصح والمشورة من ناحية، ويفعلون وقت الرئيس واهتماماته، وفى بعض الأحيان يتقدمون الرئيس فى شرح السياسات وتجهيز الرأى العام لقبولها. وحتى عندما يكون معلوما اسم مستشار بعينه، فإنه لا يكون معلوما المهمة الموكلة إليه، وفى الأغلب فإن فلسفته فى العمل، والتجربة التى يُقيم عليها أحكامه تظل من الأمور الغائبة. الأمر الثانى أنه من الناحية العملية يصبح الرئيس معتمدا فى استشاراته على رئيس الوزراء والوزراء من خلفه، والذين هم فى أغلب الأحوال يختفون خلف «توجيهات الرئيس» فى لحظات النجاح، ويختفون كلية فى لحظات الفشل. وعلى سبيل المثال فإننا منذ الثمانينيات من القرن الماضى ونحن فى حالة فشل كامل فى وضع قوانين للانتخابات يمكن للمحكمة الدستورية العليا أن تقبلها، سواء كان الدستور لعام ١٩٧١، أو الإعلانات الدستورية التى تلت ثورة يناير، أو دستور ٢٠١٢، وأخيرا دستور ٢٠١٤.
الأمر هنا لا يُنتج فقط قوانين محبطة للانتخابات، وإنما تكون القوانين عادة سواء كانت للاستثمار، أو إدارة المحافظات، أو بناء الجامعات والمدارس أو السياسات الصحية، عادة محبطة هى الأخرى؛ وما إن ننتهى من قانون وإقراره حتى تبدأ عمليات تعديله أو البحث عن طريقة لإلغائه. هنا فإن الرئيس الذى يجد نفسه وسط غابة من التشريعات وخلافات الأجهزة المختلفة حول السياسات والقوانين وعلاقاتها بالواقع؛ فإنه سيحاول قدر الإمكان التركيز على الإنجازات الملموسة المجسدة فيما هو معروف بالمشروعات القومية الكبرى. وهذه لا بأس بها لأنها تسد بعضا من احتياجات البلاد، ولكنها لا تلهب طاقة الدولة بحيث تصبح هذه المشروعات متناسبة من ناحية مع الاحتياجات العامة، ومن ناحية أخرى تعبئ موارد إضافية، بحيث ننتهى فى نهاية المطاف إلى تحقيق التقدم العام للدولة الذى يتجاوز الزيادة السكانية ويحقق عدالة التنمية بين أقاليم الدولة المختلفة.
الآلية الحالية لاتخاذ القرار فى مصر والقائمة على «رؤية للرئيس» والشعبية التى يتمتع بها، وقدرة مجلس الوزراء على إصدار التشريعات والقوانين اللازمة لا تكفى لتحقيق التقدم المطلوب. هنا فإن مؤسسة الرئاسة إذا ما كانت قوية وفاعلة ومؤمنة بالفعل بالرؤية المطروحة، فإنها أولا تربط كل أجزائها فى استراتيجية واضحة يمكن طرحها على الرأى العام فى عبارات بسيطة، وأهداف محددة، وأدوات معلومة، وجداول زمنية مقررة. وهى التى فى النهاية تقدم للرئيس البدائل ليس فقط فى السياسات، بل أيضا للأفراد والقيادات فى الوقت المناسب. إن إدارة مصر معقدة ومركبة وتحتاج ما هو أكثر من سلامة النية وحب الوطن، ببساطة تحتاج إدارة مؤسسية تعطى الرئيس الوقود اللازم للنجاح.