تتميز الدولة المدنية بمجموعة من المعالم التى لا تختلف فى أصولها ومضمونها عما جاء به الإسلام، يأتى فى مقدمتها احترام الدستور المعبر عن إرادة الجماهير، والالتزام بالقانون الصادر عن مجلس نيابى حقيقى، إضافة إلى عدم التراخى أو التهاون فى تنفيذ أحكام القضاء.. من معالمها أيضا وجود سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، مع فصل حقيقى بينها، وتوازن لا يسمح لسلطة أن تتغول على سلطة أخرى، كما يوجد بها مؤسسات (كالجيش، والشرطة، والأزهر، والكنيسة)، ومؤسسات مجتمع مدنى (تضم أحزابا، ونقابات مهنية وعمالية، وجمعيات طوعية وأهلية)، لكل منها دوره.. ويعتبر الشعب هو مصدر السلطات، فهو الذى يختار بإرادته الحرة حاكمه، ونوابه، والبرنامج الذى يعبر عن طموحاته وأشواقه، ويعتبر الحاكم أجيرا عنده.. وفى الدولة المدنية، يتمتع المواطنون- على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم وجنسياتهم ومرجعياتهم الفكرية والسياسية- بجميع حقوق المواطنة، ومن ثم التساوى الكامل فى الحقوق والواجبات.. كما تنشط فيها وسائل الإعلام- دون معوقات أو قيود- لمتابعة وتغطية الأحداث بصورة شفافة ونزيهة، وإحاطة الرأى العام بجميع المعلومات المرتبطة بالأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما يجعله متصلا وواعيا بما يجرى على الساحة.. وتمارس الأحزاب دورها بشكل فاعل فى النهوض بالمجتمع، فضلا عن سعيها الجاد- خلال التواصل مع الجماهير- للتداول السلمى للسلطة.
من معالم الدولة المدنية كذلك أن المجلس النيابى هو صاحب الحق الوحيد فى إصدار القوانين، وأن أى قانون يمكن الطعن عليه أمام المحكمة الدستورية العليا، التى تقرر مدى توافقه مع الدستور من عدمه.. وللمجلس النيابى أن يستعين بمن يرى من الأفراد والمؤسسات والمجامع العلمية والدراسية والبحثية فى جميع التخصصات والمجالات، على اعتبار أن هذه المؤسسات هى بيوت خبرة فنية وعلمية «استشارية».. صحيح أن الإخوان- أيام وجودهم فى الحكم- حاولوا أن يكون الأزهر هو المرجعية للمجلس النيابى فى إصدار القوانين، وأنه لابد من أخذ رأيه، وأن يكون هذا الرأى ملزما، الأمر الذى يجعل السلطة التشريعية مقيدة وتابعة، بل فاقدة لتمثيلها الحقيقى للشعب، لكن الله سلم.
إن الأزهر مؤسسة علمية لها دورها الأصيل فى الدعوة الإسلامية الوسطية، وتوضيح معالم الحلال والحرام، والارتقاء بمنظومة القيم الأخلاقية والإيمانية للأفراد والمجتمع، والاجتهاد فيما يخص القضايا المعاصرة التى تهم الدولة والمجتمع، وتقديم الاستشارة الفنية للمؤسسة التشريعية، وهكذا.. غير أن هناك فصيلا- نتفق أو نختلف معه- يرى أن الأزهر، برجاله ومؤسساته الحالية، غير قادر على القيام بدوره فيما يتعلق بتجديد الخطاب الدينى الذى دعا إليه الرئيس.. ويرى هذا الفصيل أن مناهج الأزهر ذاتها تتطلب تغييرا شاملا، وليست هناك رغبة صادقة للتغيير، وأن موقف الأزهر من بعض القضايا المحلية والإقليمية يحتاج إلى اجتهاد وتحديد واضح.. غنى عن البيان أن الأزهر كمؤسسة كانت مختطفة قبل ثورة يناير، وجرى عليها ما جرى على كثير أو بعض مؤسسات الدولة التى أصابها الترهل، وهى بالفعل تحتاج إلى تطوير، بل تطوير جذرى.. فما هو شكل ومضمون هذا التطوير؟ ومن الذى يقوم به؟ وهل يشمل التطوير تغيير المناهج بالكلية، أم يكون التغيير جزئيا؟ وماذا بشأن الهياكل الإدارية والتنظيمية واللجان النوعية للأزهر؟
أدعو الرئيس السيسى ملحاً أن يعطى قدراً من الاهتمام لمؤسسة الأزهر، فلن يكون هناك غيره من يستطيع تذليل جميع العقبات التى تقف فى طريق التطوير.. إن الأمر جاد وخطير، والتراخى فيه سوف تكون له عواقب وخيمة.. نحن نريد للأزهر أن يتبوأ مكانته ودوره المحلى والإقليمى والدولى، وتركه هكذا يسبب خسارة كبيرة لمصر وللأمة العربية والإسلامية.. أعلم أن الهموم كثيرة والشواغل تستنفد معظم الأوقات والطاقات، لكن لابد مما ليس منه بد.. هو ليس أمراً فرعياً أو هامشياً، ومن ثم أرجو أن يضعه الرئيس على رأس أولوياته، والله المستعان.
إن الإسلام ليس دين كهنة ولا كهنوت، ولا أحد بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) يملك حق التحدث نيابة عن الله سبحانه، كما أنه لا واسطة بين العباد وربهم، وأنه ليس هناك من معصوم سوى الأنبياء والرسل الكرام.. ثم إن هناك فرقا بين رجال العلوم الشرعية (كعلوم القرآن والسنة) وبين الدين نفسه.. أظن آن الأوان أن تكون الجماعات الإسلامية الموجودة على الساحة تابعة لجهة ما، ولتكن مؤسسة الأزهر، ومن ثم- كجزء من التطوير المأمول- أقترح أن تكون هذه الجماعات تابعة له، على غرار الجمعيات التابعة لوزارة التضامن، وبهذا نضمن عدم وجود فكر آخر غير الفكر الوسطى للأزهر، وحتى لا تعمل هذه الجماعات ضد هوية الدولة أو نظامها العام.. ومن الممكن أن يتشكل من مؤسسة الأزهر مجلس أعلى لشؤون الجماعات.. ولهذا المجلس الحق فى الموافقة من عدمها، وبالتالى اعتماد أى جماعة، طبقا لصحة الفكر، وسلامة المنهج، وشرف الوسائل والآليات، ونبل الأهداف والغايات.
إنه لا خلاف على أن الدولة المدنية تستهدف إقامة العدل بين الناس، وهو نفسه الهدف الأسمى للإسلام.. ومن المعلوم أن شريعة الإسلام لا تعمل فى فراغ، وإنما فى جو ومناخ إيمانى، بل هى فى الحقيقة تعمل لإيجاد هذا المناخ، ليس قهرا ولا قسرا، لكن بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يتحقق الرضا والقبول، كما أن الشريعة تسعى لتكوين وصياغة المجتمع على أسس من التعايش، والتعاون، والتكافل، والتكاتف، والتماسك، والتواد، والتعاطف، والتراحم، والتسامح، ومن ثم تحقيق المجتمع القوى، والعفى.. ولا يمكن أن يتحقق هذا كله إلا من خلال تضافر كل القوى وتكاتف كل الجهود وفق منظومة وعقد واحد، فى إطار الدولة المدنية.. وإذا كانت الحرية من أسس الدولة المدنية، فهى أيضا من فرائض الإسلام.. وإذا كانت شرطا لإقامة الديمقراطية، فهى أيضا شرط لإقامة الشورى، وأعتقد أن الحقوق والحريات التى تضمنها دستور ٢٠١٤ تعتبر نموذجا ومثالا.