ليس صعباً أن نضع حداً للتدهور المترتب على تجريف شامل أصاب المجتمع على مدى عقود. ولكن هذا يتطلب عملاً جاداً لا ينقصنا الوعى بأهميته وضرورته. غير أننا نتحدث عن العمل أكثر مما نعمل، لأننا لم ننطلق من رؤية واضحة ننقل العمل من حيز الخطاب الوعظى إلى مجال الواقع الحى.
وإذا عُدنا إلى تجارب من سبقونا فى العالم، نجد أن رؤيتهم للعمل ارتبطت بثلاثة مقومات أساسية للمجتمع هى العلم والعدل والحرية بهذا الترتيب أياً كانت «الخلطة» التى تشمل تلك المقومات.
فمن الطبيعى أن عملاً على مستوى الطموح إلى مصر التى نحلم بها لا بد أن يقوم على أساس من العلم فى عصر باتت المعرفة هى المصدر الرئيسى للتقدم فيه.
ولا يجتمع العمل والعلم على هذا النحو إلا بمحاصرة أنماط التفكير الخرافية بمختلف أنواعها، سواء المستمدة من تفسيرات دينية متخلفة أو من شعارات غوغائية وشوفينية تنطوى على ملامح فاشية. فلا مجال لعلم أو معرفة عندما يغيب عقل المجتمع وراء حجاب الخرافات التى تتسربل بأردية دينية أو وطنية مزيفة.
ويبدأ العمل فى الاقتراب من الأسس العلمية المعروفة فى عالم اليوم عندما ينطلق من تخطيط مستمر على كافة المستويات، ويعطى أولوية قصوى للبحث العلمى والتطوير المعرفى الغائبين تقريباً فى اقتصادنا، كما فى كل مناحى حياتنا. فالعلم فى هذا العصر يعنى قبل كل شىء إنتاج المعرفة وليس استيراد منتجاتها.
فالتحول من استهلاك المعرفة إلى إنتاجها هو بداية الانتقال من أحد هوامش العالم إلى قلبه. ولا يتحقق هذا التحول بدون بناء مئات من مراكز الأبحاث والتطوير، بمبادرات من الشركات التى تعتمد على استيراد المعرفة أو تعمل فى مجال الوكالة لمؤسسات عالمية وتكتفى بتجميع أجزاء هذه السلعة أو تلك. وعلى الحكومة أن تشجع هذا التحول الكبير وتدعمه من خلال بناء منظومة تربط مراكز الأبحاث والتطوير بالجامعات، وتقدم الحوافز اللازمة مثل خصم قيمة الإنفاق على هذه المراكز من الوعاء الضريبى للشركات التى تقيمها وترعاها.
وهذا هو الطريق الذى انتهجته دول سبقتنا. فقد تحول كثير من شركاتها من توابع تافهة لمؤسسات أجنبية كبيرة إلى صروح شامخة ليس فقط لتطوير الصناعات والخدمات التى كانت تعمل فيها، ولكن أيضاً لإدخال المزيد منها. وعندئذ فقط يقترن العمل بالمعرفة، ويصبح للعلم مقامه، ويتعذر الخلط بينه وبين «الكُفتة».
ويرتبط بذلك إصلاح نظام التعليم البائس الذى لا ينتمى إلى العصر. فالتعليم فى عالم اليوم يقوم على المعرفة وتشغيل العقل وليس على التلقين وتنمية الذاكرة. ولكى يكون لدينا هذا التعليم، لابد من تغيير الفلسفة السائدة بشأنه. ففلسفة التعليم الحديث تشمل الحياة بكل مناحيها، وليس الحصول على شهادة وتحسين فرصة الحصول على عمل. وأهم ما فى المدرسة الحديثة هو مكتبة جيدة يتردد عليها الطلاب، وناد للعلوم مفتوح طول اليوم، ويتطوع فيه مدرسون أو باحثون علميون يقطنون فى المنطقة التى توجد فيها المدرسة لمساعدة الطلاب الراغبين فى تنمية معارفهم واكتشاف مواهبهم.
ولا يقل أهمية عن ذلك إدراك مدى خطر الفجوة الجيلية المتزايدة وتوفر الإرادة لتجسيرها بدءاً بالكف عن إرغام الأجيال الجديدة على أن تبقى فى الصندوق القديم، والتوقف عن محاولة إجبارها على أن تفكر بغير طريقتها.
ولكى ينجح البناء المعتمد على العمل العلمى بهذه الطريقة، ينبغى تحصينه بالعدل والحرية ليس لقيمتهما السامية فقط، ولكن لأنهما ضرورتان عمليتان ملحتان. فالشعور بالعدل ضرورى لتوفير الحماس للعمل. والعدل هنا ليس اجتماعياً فقط بل اقتصادياً أيضاً، لأنه يفتح السوق أمام الجميع ويحَّرر صغار المستثمرين ومتوسطيهم من سطوة «الحيتان». ولا يتطلب ذلك أكثر من وضع القواعد التى تنظم السوق وتحكم العلاقة بين مختلف فئات المجتمع على أساس من الإنصاف فى المزايا والأعباء.
ولا تكتمل هذه المنظومة إلا بالحرية التى يسعى الراغبون فى استمرار خنق المجتمع لابتذالها واختزالها فى تظاهرات واعتصامات. فالحرية لا تعطل الحياة، بل هى شرط ضرورى لممارسة هذه الحياة بالطريقة التى تحقق التقدم. فلا مجال لعلم، وعمل يقوم عليه، بغير إبداع وابتكار يطردهما الخوف حين ينتشر فى المجتمع ويقتلهما القمع والتسلط عندما يطغيان.
ولذلك لم يعد ضمان الحريات مجرد حق للإنسان فى هذا العصر، بل صار واجباً من حيث إنه شرط للتقدم الذى يبدأ بتحرير الإنسان من الخوف لإطلاق طاقاته وتحرير العقل من القيود ليفكر ويطَّور ويبدع ويبتكر.
لقد أصبح العدل والحرية هما الإطار الذى يضمن نجاح أى عمل يقوم على العلم. كما صار العمل العلمى هو الأساس الذى يستند عليه المجتمع العادل الحر فى أى دولة تريد أن تكون جزءاً من العالم اليوم.