كلنا كنا طلبة، وسكنا مفروش، كل اتنين فى حجرة، وكل ستة فى شقة، كان بيننا الملتزم ديناً وخلقاً، والعلمانى المنفتح المستنير، والزلنطحى الفهلوى الضحوك، جميعا من أصول ريفية، كانت لهجاتنا عند الخناق تثير الضحك، كلٌّ بحرفه، تعطيشاً أو ترقيقاً.
ماذا كنا نقتنى؟.. صحفاً، مجلات، روايات، دواوين شعر، فلسفات، وراديو ترانزستور نسمع منه أم كلثوم فى العصارى الرائقة، وحليم فى الليالى القمرية الحالمة، ونسخة أو أكثر من القرآن الكريم، كان بعضنا يفتتح يومه أو قبل المنام بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم، ونصلى ونصوم وتجمعنا موائد فقيرة فى فطورات رمضان الشهية.
سبحان الله، ثلاثة طلاب من الإخوان فى جامعة الأزهر يقتنون فى شقتهم، شقة الطلبة فى 11 حارة الزهور، متفرع من شارع عمر بن الخطاب بمنطقة المقاولون العرب بمدينة نصر، قنبلة بدائية الصنع، وتنفجر بين أيديهم، وتتطاير مخلفة جراحاً عميقة فى قلوبنا جميعا.
ماذا دهاكم، الله يهديكم، عجباً طلبة يحوزون قنابل، متى كان الطلبة يفجرون ويفخخون ويقتلون؟.. متى تحول هؤلاء إلى القتل بدلاً من الحب، وإلى تصنيع القنابل بديلاً عن قرض الشعر؟.. كان الملتزمون منا يقرضون شعراً عمودياً، غاية الالتزام بالعروض والقافية، وينعون علينا ولعنا بالشعر المنثور، كنا نفتتن بـ«سيرة الحب»، وكانوا يذوبون رقة مع «وُلد الهدى»، كنا وكانوا جميعا نحب الحب فى أهله ونبغض البغض فى أهله.
يا نهااااار ما طلع له شمس، قنبلة بدائية الصنع فى شقة الطلبة، أخلت شقق الطلبة من الفكر والثقافة والشعر والروايات؟.. ألم يعد الطلبة يقرأون ويسمعون الآيات البينات، أضاع الحلم بينهم؟.. أُجهضت كل أحلامهم فى الحياة، فخرجوا علينا من شقوقهم- جمع شق- يقتُلون ويُقتَلون، ويفخخون وتتطاير أشلاؤهم فى وجوهنا، يفجرون أنفسهم فينا.
من ذا الذى زرع فى قلوبهم كل هذا الحقد؟.. من أشاع فى نفوسهم البغضاء، من قبض قلوبهم بقسوة فأحالها إلى مستودعات من الكراهية؟.. أخشى أن طلاب الإخوان صاروا قنابل بدائية موقوتة إن لم تنفجر فينا انفجرت فى نفسها.
شقة الطلبة، أيام العزوبية، والابتسامة العذبة، ونظرة الحب الأولى، وبنت الجيران، والركن البعيد الهادى، وسندوتشات الفول والطعمية، والمكرونة بالشطة، وزوادة الحاجة تأتى ساخنة شهية من البلد، وجواب حبيبة يسكن فى ديوان نزار، عند صفحة قصيدة ذائعة الصيت «زيدينى عشقاً زيدينى.. يا أحلى نوبات جنونى».
كنا مجانين ولكن ظرفاء.
كنا فى نوادى الفكر الناصرى نعب من خطب عبدالناصر، كان الإخوان يحفظون الرسائل، والجماعات الإسلامية تسكن المدينة وتصلى الفجر حاضراً، والحرم الجامعى يلمنا جميعا شيعاً وأحزاباً، نتفرق على أمل اللقاء، ونعود إلى شقة الطلبة لنطبخ رز معجن، كنا نخرج معاً سعداء نلحق المحاضرات كالعصافير الخضراء تغدو خماصاً وتروح بطاناً.. البقاء لله فى شقة الطلبة.