x

أحمد الدريني الصحافة والأمن القومي أحمد الدريني الإثنين 04-05-2015 21:37


في احتفالات اليوم العالمي للصحافة طرح السؤال نفسه بقوة حول حدود العلاقة بين الصحافة والأمن القومي.

فهل استغل القائمون على الثاني القائمين على الأولى؟ أم أن الطرفين استسلما لنفس شكل العلاقة الآسن منذ عقود، بما حرم الطرفين من تطوير أدائهما؟

السؤالٌ مشروع في ظل العلاقة التي تبدو كما لو كانت متدفقة من طرف واحد فحسب على مدار الشهور العصيبة الماضية.

فهل ما تمارسه الصحافة فيما يخص شؤون الأمن القومي، يعد صحافة فعلا في ظل الاعتماد– مكتوف الأيدي- على البيانات الرسمية، وفي ظل احتكار الحديث في الشؤون العسكرية على الخبراء الاستراتيجيين، الذين تحاوط تحليلاتهم علامات استفهام، بدورها؟

هل امتلكنا ترف تحليل الوقائع العسكرية، والاشتباكات التي خضناها ضد العدو الفاجر في سيناء؟ هل قدمت الصحافة المصرية معلومة أو تحليلًا بخلاف ما جاء في البيانات المقتضبة التي لا تجيب معظم التساؤلات؟

يعتمد القائمون على الأمن القومي المصرية على نظرية "التعمية والتمويه"، كنمط لإخفاء القدرات والخسائر والنوايا، فلا يمكن للمتربص بالجيش (أو حتى المراقب لأغراض علمية أو وطنية) أن يدرك تحديدًا حجم الخلل أو ضخامة الإنجاز.

وتبدو الوقائع التي أشير إليها تاريخيا عن تحليل العدو الإسرائيلي لخسائر الجيش المصري في صفوف القيادات أثناء حرب الاستنزاف عن طريق متابعة صفحات الوفيات في الصحف المصرية التي زخرت بأخبار جنازات القادة الشهداء، مشفوعة مع نعي كل منهم..

تبدو هذه الوقائع كما لو كانت ضاغطة بذكراها الأليمة على القائمين على الأمن القومي لدرجة تدفعهم حتى اليوم إلى فرط التخفي والتمويه.

وهناك واقعة في غاية الأهمية سردها وزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط في مذكراته حول الفترة التي قضاها برفقة مستشار الأمن القومي السيد حافظ إسماعيل أثناء تجهيزات حرب أكتوبر وفي أعقاب العبور العظيم، ثم في كواليس إدارة المفاوضات الدبلوماسية مع العدو.

وتتلخص الواقعة إجمالا في تقدم أبو الغيط بما يشبه تصورا لخطة عبور لخط بارليف ينفذها الجيش المصري، وفق تكتيك بعينه، رسمه أبو الغيط بموجب خلفيته العسكرية واعتمادًا على فهمه للشؤون الحربية الذي ورثه عن والده الطيار المقاتل.

وحين تقدم أبوالغيط بمخططه لحافظ إسماعيل قبيل حرب أكتوبر بشهور قليلة، أبدى مستشار الأمن القومي تحفظاته على التصور برمته، لدرجة أجهضته، وسفهته منطقا وتفكيرًا.

والمدهش أن حافظ اسماعيل والمشير أحمد اسماعيل وزير الدفاع آنذاك، وآخرون في سلم قيادة الجيش والمخابرات، كانوا يجالسون الرئيس السادات لتباحث توجيه العمل العسكري العظيم في أكتوبر، بنفس ماورد تقريبا في ورقة أحمد أبوالغيط!

ورغم ذلك، اختار مستشار الأمن القومي أن يخفي الأمر على سكرتيره، الذي لا يشك في وطنيته ولا كفاءته، ولم يكتف بالإخفاء فحسب، بل بدد النظرية إجمالا، بنقاط أوردها أبو الغيط نصا في مذكراته، وحين يقرأها القاريء لا يظن أبدًا أن من كتبها ينتوي الحرب فالعبور حقًا!

ربما تختزل هذه الواقعة، ذهنية الأمن القومي المصري، الذي يتعمد المبالغة في الإخفاء، كي يظل عصيًا على الرصد.

لكن في ظل عصر المعلومات وفي ظل إتاحة بيانات صفقات السلاح ومع انتشار الدوريات العسكرية الأجنبية التي تقدم تحليلات حول كل شيء، يبدو هذا التكتم المبالغ فيه بحاجة إلى المراجعة كمبدأ، ربما عفا عليه الزمن.

والقصد هنا أن تمارس الصحافة دورها في الملاحظة والتحليل، ليجد الجمهور ضالته المنشودة في الحقيقة والفهم وتقدير الموقف على نحو سليم، عوضًا عن الاعتماد على الشائعات التي تملأ الفراغ بين الرواية الرسمية المنقوصة..وضعف القدرة الصحفية في التعاطي معها.

ليست هذه دعوى لإفشاء تفاصيل كل شيء (فلا أحد يفعل هذا في العالم)، لكنها مراجعة ضرورية للمشهد مع مستجدات تضرب العالم من مشرقه لمغربه، ونبدو فيها كما لو كنا خارج نطاق الزمن.

فحين يصبح لدينا الصحفي المتمكن من تحليل الشؤون العسكرية، وحين يمكننا طرح الأسئلة البديهية منتظرين تلقي إجابات شافية، سيضيق الخناق حول الشائعات والمعلومات المغلوطة التي تحاصرنا.

وإذ تصر الرسائل العلنية للقوات المسلحة على أننا نتعرض لما يسمى بحروب الجيل الرابع والتي تقوم ضمن ما تقوم على حرب المعلومات، فإن الحري بالجيش أن يسد هذا الفراغ بذاته..لا أن يترك نفسه وشعبه فريسة ما يقال هنا وهناك.

فحين تمارس الصحافة دورها المهني والوطني، ستقطع الخط على المتسللين من ثغرات جدارنا، وحتى لو آلم الأمر الجيش في البداية، وشق عليه أن ينفتح كثيرًا من الشيء على الرأي العام بامتدادت وصيغ مختلفة، فإن الضرورات تدفعنا جميعًا إلى هذه النقطة.

الصحافة ليست مهنة الفضول ولا نبش المعلومات والأسرار دون ضابط أخلاقي وإنساني ووطني، كما يتصور البعض، فالصحفي وطنيٌ هو الآخر ولديه شعور بالمسؤولية يتطور مع حسن تدريبه على أداء مهامه، ويتوقف على مقدار إدراكه للمشهد الوطني برمته.

المقصد النهائي..أننا ،كصحفيين، لا نمارس صحافة، ونكتفي بنقل البيانات فحسب، دون امتلاك قدرة الاختلاف معها ولا شجاعة تحليلها ولا ترف تكذيبها ولا رفاهية تبنيها على عواهنها!

وهذا ليس من مصلحة الطرفين، أي ليس من مصلحة الوطن.

وحتى مع أغنية شيرين التي أنتجها الجيش مؤخرا (وهي رائعة بالمناسبة) يمكن رصد تطور نوعي في التعاطي مع الإعلام والرأي العام..جنبا إلى جنب مع الأفلام القصيرة التي عرفت طريقها لذهن الإعلام العسكري..

فحتى مع كل هذا الجهد.. يظل الجوهر الأصلي بمنأى عن كبد الحقيقة وعن لب المشكلة وعن بيت الداء.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية