إن أحداث العنف الأخيرة بين الشرطة والمواطنين فى الولايات المتحدة الأمريكية، فى بالتيمور القريبة جداً من العاصمة واشنطن، وفى ميزورى قبلها ببضعة أشهر، تخبرنا الكثير عن واقع الحال فى مصر وتخبرنا أكثر عن مدى تطور الشرطة المصرية رغم كل الظروف التى نمر بها، كما أنها أيضاً تفضح لنا ازدواجية المعايير لدى المجتمع الدولى فى تعامله مع ملف الحريات المدنية من دولة لأخرى لأسباب سياسية بحتة.
فقد كشفت وسائل التواصل الاجتماعى التى اعتمد عليها المتظاهرون ضد عنف الشرطة فى أمريكا ما تعمد الإعلام الأمريكى- فى معظمه- التعتيم عليه، بحجة أن الشرطة لجأت لاستعمال القوة لأن المتظاهرين أصلاً ينتمون لمجتمعات فقيرة أغلبها من أصحاب البشرة السمراء ويشيع فيها تكوين العصابات واستخدام العنف، لكن الحقيقة التى كشفها نشطاء الإنترنت كانت أن الرجل «الأسود» المعروف باندفاعه هو من التزم بضبط النفس والسلمية فى التعبير عن نفسه، فى حين أن الرجل «الأبيض» الذى يحمل السلطة والسلاح هو الذى اعتدى وتعسف.
ولأن الواقعة تكررت أكثر من مرة، دون محاسبة ودون تدخل أو حتى اهتمام من البيت الأبيض، تضخمت المشكلة وانتقلت فى عين المواطن الأمريكى من كونها تجاوزات فردية لبعض أفراد الشرطة إلى كونها منهجية متعمدة، بما أدى إلى ما نراه الآن من فورة تنذر بثورة غضب داخل أمريكا.
لكن الأمر المزعج أكثر من تعتيم الإعلام وتجاهل الحكومة الأمريكية محاسبة أفراد الشرطة المتجاوزين، هو صمت غالبية المنظمات الحقوقية الدولية عن كل هذه الانتهاكات الصريحة من جانب الشرطة الأمريكية طوال الفترة الماضية، وأخص هنا المنظمات التى لا تفوّت فرصة للهجوم على الشرطة المصرية وتصوير ما يحدث من تجاوزات بعض أفرادها الذين طالهم فساد الحقبة الماضية على أنه منهج متعمد لجهاز الشرطة بالكامل، متجاهلين تماماً كل ما تقوم به وزارة الداخلية المصرية من جهد واضح فى تطوير الأداء الأمنى بما لا يتعارض مع حقوق الإنسان ومحاسبة المقصرين على مرأى ومسمع من الجميع.
ولعل تعمد الأطراف المتربصة بمصر دولياً التركيز على سلبيات الشرطة المصرية، فى الوقت الذى يتجاهلون فيه انتهاكات قوات الشرطة فى دول مستقرة بالفعل مثل أمريكا، لا يمكن تفسيره بمنأى عن الحرب التى تخوضها مصر ضد الإرهاب الذى ينهش فى قلبها من الداخل، والتى تلعب فيها الشرطة دور حائط الصد الرئيسى بين الإرهابيين والمواطن العادى، وفى إزاحتها أو على الأقل إرباكها وتشتيتها.
إن المعضلة الكبرى التى تواجه كل دول العالم بغض النظر عن درجة نموها الاقتصادى أو تطورها الديمقراطى، هى كيفية تحقيق أعلى قدر من الأمن والاستقرار دون المساس بالحقوق الإنسانية والمدنية للمواطنين، خصوصاً الحق فى التجمع السلمى وحرية التعبير. وكلما زادت قدرة الدولة على تحقيق هذا التوازن أصبحت أكثر ديمقراطية، وهذا ما كنا نتوقعه من أمريكا رائدة الديمقراطية والحريات المدنية فى العالم الحديث.
ولهذا فإن كل ما على الدولة المصرية فعله الآن هو الاستمتاع بمتابعة فيلم الأكشن الأمريكى، والحرص كل الحرص على مواصلة تنفيذ خارطة الطريق واتخاذ كل ما يحميها من تدابير وعلى رأسها إعلاء سيادة القانون وتطوير أداء جهاز الشرطة لينجح فى تحقيق المعادلة الصعبة بين حفظ الأمن وحفظ الحقوق، ومن ثم تشكيل مصر التى نريدها ونستحقها.