مررت قبل أيام من أمام فندق ميريديان القاهرة، فأصابنى الحزن الذى يصيبنى فى كل مرة أمر فيها من أمامه، وسألت نفسى فى ألم عما إذا كنا نستحق فعلاً أن يجرى النيل الخالد على أرضنا، أم أننا لا نستحقه، ولا يستحقنا؟!
فالذين سافروا منا قد رأوا بأعينهم كيف أن هذه الدولة، أو تلك، لا تملك من الأنهار على أرضها إلا ما هو أقرب إلى الترعة الصغيرة، منه إلى النهر بمفهومه الطبيعى، فضلاً بالطبع عن أن يكون فى حجم نيلنا العظيم، ومع ذلك، فإن احتفاءها بما تسميه نهراً عندها يدعوك إلى الإعجاب بها حقاً، ثم يدعوك إلى الأسى، حين تتذكر كيف هو حال النهر الخالد على أرض بلادك!
هل من حق المستثمر.. أى مستثمر.. أياً كان اسمه، أو حجمه، أو حجم أعماله، أن يشترى فندقاً فى موقع فريد، مثل الميريديان، ثم يغلقه هكذا بالضبة والمفتاح، لسنوات وسنوات، ويجعله مأوى للفئران والحشرات، ويحوله إلى خرابة على النيل.. تصور أنت خرابة على النيل من عشرة أدوار.. هل من حقه أن يفعل هذا بفندق هذا هو اسمه، وهذا هو موقعه الذى لا يكاد يجاريه موقع آخر لأى فندق فى البلد؟!
لقد كان المهندس إبراهيم محلب، رئيس مجلس الوزراء، حاضراً فى المناسبة ذاتها، التى حضرتها، عندما مررت من أمام «الفندق- الجريمة» إذا جاز أن نطلق عليه هذا الاسم، ولابد أنه قد مر عليه مثلى، ومثل غيرى، ونحن فى طريقنا لحضور حفل توزيع جوائز مصطفى أمين فى الصحافة، مساء الاثنين، ولا أعرف ما الذى دار فى ذهن المهندس محلب، وهو يمر أمام الفندق الساحر، أو الذى كان ساحراً، ثم أصبح مظلماً كئيباً، ينعى حظه معنا، ثم معه يأسف النيل الخالد على اليوم الذى كتب الله عليه فيه أن يجرى فى أرض لا يدرك أصحابها حقيقة قيمته عندهم، ويهيلون التراب عليه، وعلى المنشآت المطلة على شاطئه، فى اليوم الواحد، ألف مرة ومرة!
لا أعرف ما الذى دار فى عقل رئيس وزرائنا وهو يمر أمام فندق، كان قبل أن يستحوذ عليه المستثمر إياه، بلحظات، يمثل حلماً بعيد المنال، لدى كل قادم إلى القاهرة.. لا أعرف!
ولكننى أذكر تماماً كيف أن أديب السودان، الطيب صالح، كان لا يفارق ميريديان القاهرة إذا جاء إلى مصر، وحين سألته مرة عن السبب الذى يدعوه إلى الإقامة فى هذا الفندق تحديداً، دون غيره، وعن السبب الذى يجعله لا يغيره، نظر نحوى فى دهشة، ثم قال ما معناه إنه لا يتمنى فقط أن يقيم فيه فى كل زيارة له للقاهرة، وإنما يتمنى لو مات فيه أيضاً، لأنه، رغم إقامته فى لندن، ورغم أنه نزل فى فنادق كثيرة حول العالم، إلا أنه لم يصادف فندقاً له مذاق هذا الميريديان أبداً!
يرحمك الله يا أديبنا العظيم، فلا أعرف ما الذى كنت ستقوله، لو أنك جئت مرة لتحجز غرفتك فيه، كالعادة، فأخبروك بأن مستثمراً عربياً قد اشتراه، ثم أغلق أبوابه، وأخذ مفاتيحه، وسافر، وطلب ممن يعترض منا، أو من مسؤولينا، أن يخبط رأسه فى أى حائط يعجبه من حوائط الفندق!
يرحمك الله يا أديبنا الجميل، والحمد لله أنك غادرت عالمنا قبل أن تشهد هذه الجريمة متكاملة الأركان على شاطئ نهرنا الخالد، الذى بكل تأكيد، لا نستحقه، ولا يستحقنا.. وكيف نستحقه، أو يستحقنا، ونحن نهينه فى كل لحظة يبقى فيها الميريديان على هذا الحال البائس المحزن؟!
كانت الجريمة على يمين «محلب» فى طريقه لحضور الحفل، ثم على يساره وهو عائد إلى بيته، والمهم الآن ليس موقعها منه فى ذهابه، ولا فى إيابه، وإنما موقعها على أجندة قراره بعد أن رآها بعينيه!