ازدحم ملف قضية د. بثينة كشك، وكيل وزارة التربية والتعليم بمحافظة الجيزة، بأوراق كثيرة، تضم المقالات والتعليقات والأقوال التى نشرتها أو بثتها الصحف ومواقع التواصل الاجتماعى والفضائيات، تستنكر جميعها، إقدام الدكتورة الوكيلة على قيادة حملة قامت بإحراق 72 كتاباً من الكتب التى تقتنيها مكتبة إحدى المدارس الخاصة الخاضعة لإشرافها.. وهى كلها مقالات يستحق الذين كتبوها أو أذاعوها التحية والتقدير على جهدهم المشكور فى الدفاع عن الحرية، بصرف النظر عن الشطط الذى قاد بعضهم للمبالغة فى هذا الاستنكار، على نحو دفعهم لاستخدام ألفاظ وتشبيهات تدعو إلى استنكار مضاد له فى الاتجاه ومضاعف له فى المقدار.
مشكلة هذا الجهد المشكور، التى قد تنتقص - وربما تلغى - ما يستحقه أصحابه من ثناء موفور، تكمن فى أنهم ركزوا على هامش القضية، وهى عملية الحرق المستنكرة بالثلاثة، شافعى ومالكى وأبوحنيفة، وابتعدوا عن جوهرها، على الرغم من أن حقائقه كانت واضحة أمامهم.
وأولى هذه الحقائق، أن المدرسة التى جرت فيها واقعة الحرق، ليست من المدارس الحكومية التى تشرف عليها وزارة التربية والتعليم، ولكنها مدرسة خاصة، كان يملكها ويديرها مجموعة من أقرباء القطب الإخوانى د. عصام العريان، عضو مكتب الإرشاد وزعيم الأغلبية فى مجلس الشورى الراحل، وهى واحدة من حوالى 80 مدرسة أخرى، كان يملكها ويديرها أقطاب الجماعة، فرضت عليها الحراسة بعد ثورة 30 يونيو، ووضعت تحت إدارة الوزارة.
وكل من لديه إلمام ولو بسيط بتاريخ جماعة الإخوان المسلمين، يعلم أن السيطرة على مؤسسات التنشئة الاجتماعية هى أحد أهم عناصر خطة التمكين التى وضعتها الجماعة للاستيلاء على المجتمع، من المدارس إلى الجامعات، ومن التعليم المدنى إلى التعليم الأزهرى، ومن الساحات الشعبية إلى النوادى الرياضية، ومن المؤسسات الإعلامية إلى المؤسسات الثقافية، وأن السيطرة على التعليم قبل الجامعى تحتل أهمية خاصة فى هذه الخطة، باعتباره مرحلة التكوين الأساسية للمواطن وهو ما يعنى تجنيد طلاب كليات التربية التى تؤهل خريجها للعمل فى التدريس، وإنشاء المدارس الخاصة لكل مراحل التعليم العام، وتجنيد المدرسين والنظار، بحيث لا يكاد المواطن ينزل من بطن أمه حتى يجد نفسه عضواً فى الجماعة، ويرفع كفه بشعار رابعة العدوية!
ولأن الأساس فى الدولة الوطنية الديمقراطية أن تكون مرحلة التعليم العام، كما قلت من قبل نقلاً عن طه حسين، مرحلة لبناء وجدان وطنى مشترك بين جميع المواطنين، بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم وألوانهم وأجناسهم، يتعلمون خلالها أساسيات العلوم والمعارف، ويدرسون تاريخ بلادهم وتاريخ العالم، ويرتبطون بالعصر الذى يعيشون فيه، فتتكون بينهم مشتركات تكون أساساً لتشكيل جماعة وطنية، قبل أن ينتقلوا إلى مرحلة التعليم الجامعى فيتخصص كل منهم فى الفرع الذى يتواءم مع رغباته ومواهبه، فلا يقطع هذا التخصص وشائج المعرفة بينه وبين الآخرين.
وعلى العكس من ذلك، فإن مدارس التعليم العام التى تؤسسها جماعة الإخوان المسلمين أقرب ما تكون إلى «مدرسة كادر حزبية» تسعى إلى عزل الطلاب الذين يتلقون العلم فيها عن المحيط الوطنى العام الذى يعيشون فيه، وهذا هو الخيط الغليظ بينها وبين مدارس التعليم العام فى الدولة الوطنية الديمقراطية.
ويخطئ من يتوهم أن المكتبات فى مدارس التعليم العام هى مكتبات عامة ينبغى أن تضم كل أنواع الكتب، إذ هى جزء من العملية التعليمية، ينبغى أن يتم انتقاء ما تزود به من كتب على أسس تربوية، تتناسب مع عمر التلميذ ومع نمو عقله ومداركه، فما يصلح لطفل فى أولى مراحل التعليم لا يصلح لمن يمر بمرحلة الطفولة المتأخرة أو المراهقة المبكرة، وبالتالى فلا محل للقول بأن مكتبات المدارس ينبغى أن تضم كتباً تحتوى على كل الأفكار لتعليم طلابها احترام تنوع الآراء والأفكار، لأن هذه ليست مهمة المدارس فى مراحل التعليم العام، ولكنها مهمة مكتبات الجامعات والمكتبات العامة.
المشكلة لا تكمن فى الخطأ الذى وقعت فيه، بحسن نية، د. بثينة كشك التى ربما تأثرت بضغط الذين طالبوا فى وسائل الإعلام ذاتها بإعدام الإخوان المسلمين دون محاكمة أو دفاع أو استئناف أو نقض، وهاجمون عرض كتب سيد قطب وحسن البنا ويوسف القرضاوى فى أحد أحنجة دار للنشر فى معرض الكتاب، ولكنها تكمن فى أن ذلك كله، هو هوامش على المتن الذى لم يقترب منه أحد بالقدر الكافى، وهو الرؤية التى ينبغى أن ينطلق منها ليعود التعليم العام إلى وظيفته الأساسية التى ينبغى أن يقوم بها فى دولة وطنية ديمقراطية.. بحيث يتوحد هذا التعليم ويتلقى المصريون جميعهم فى مرحلة ما قبل التعليم الجامعى، تعليماً موحداً يؤسس لوجدان وطنى مشترك بدلاً من هذه الفوضى التى قادتنا إلى مدارس للغات بلا حصر وأخرى للأزهر، وثالثة للإخوان وما خفى كان أعظم.
وتلك هى الورقة الغائبة من ملف قضية د. بثينة كشك! وبدونها فلا أساس للقضية.