التراث كالميراث وزْناً ومعنى فهو الشىء المتروك من الآباء والأجداد من مال أو عقار أو قيم خلقية أو معانٍ روحية أو علوم إنسانية أو إبداعات فكرية، كل ذلك يسمى ميراثا وتراثا، بيد أن أكثر استعمال اللغويين يجعل الميراث فى الأمور المادية والتراث فى الأمور المعنوية.
وكما يقف الإنسان أحيانا عاجزا مضطربا حائرا إذا ما ورث ميراثا ضخما من الأموال والعقارات والشركات والأراضى والمشروعات الضخمة العملاقة دون أن تكون له أدنى خبرة بالتعامل مع هذه الأموال، من حيث حسن التصرف فيها وإدارتها والمقدرة على تنميتها وحسن التحكم والاستثمار فيها، وهذا العجز كفيل بتدمير هذه الثروة تدميرا كاملا وبالرجوع بصاحبه إلى نقطة الفقر والعوز مرة أخرى.
كذلك قد يقف المرء المسلم المعاصر بقلة خبرته واضمحلال ثقافته وسطحية فكرته وفقده لأدوات التواصل مع التراث العلمى والفقهى الذى تركه لنا الأولون الأماجد، قد يقف حائرا عاجزا مضطربا خائفا من التعامل مع التراث العلمى الذى ولده لنا الأقدمون، وهذا العجز إما أن يولد لدى بعضهم استسلاماً تاماً لكل مفردات التراث وعبودية مطلقة لكل ما فيها بحيث إنه صار يخلط خلطا مشينا بين ثوابت الدين التى لا تتغير بتغير الزمان والمكان وبين اجتهادات الفقهاء التى ناسبت عصوراً وأزمانا مغايرة تماما للواقع الذى نحياه الآن، كما أنه لا يستطيع أن يفرق بين الفقه الإسلامى وبين الشريعة؛ الفقه باعتباره منتجًا بشريًّا صدر نتيجة جهود جماعة من العلماء الأفذاذ لهم مكنة خاصة من أدوات اللغة والفهم والتفسير وحازوا ملكات عظيمة مكنتهم من التجديد فى الدين على مر العصور، وهذه الفئة المقدسة للتراث تعد كارثة بمعنى الكلمة على الإسلام وعلومه على الرغم من تسربلها ظاهرا بالتمسك بالدين والخضوع لأحكامه.
وإما أن تولد هذه الحالة أيضا لدى البعض الآخر حالة عداء - إن لم تكن عدوانية - مع التراث بكل مفرداته فيسعى لهدمه ويتنكر لمصادره ولأدوات فهمه، ومهما كلفه الأمر من إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة فهو سائر فى طريقه لا يهمه شىء بل يحسب على زعمه أن هذا الهدم والتدمير ما هو إلا خدمة للدين وتطهير له من أوهام الأولين.
وكلا طرفى الأمور ذميم: تقديس التراث وتدنيس التراث.
علينا أن نحسن التعامل مع هذه الثروة الضخمة أولا بأن نتعاطى معها بأدوات وقواعد وعلوم تساعدنا على الفهم والتحليل، كما علينا أن ندرك طبيعة البيئة التى أنتجت لنا هذا التراث فنتجاوز منه عند اجتهاداتنا المعاصرة ما يجب أن نتجاوزه بحكم الزمان والبيئة، بيد أننا بالمحافظة عليه نستفيد استفادة هائلة من النظر فى مسالك وقواعد الاجتهاد عند الأولين.
فبالنسبة لقضية الحديث والإسناد، لابد أن نعلم أن الإسناد الذى نقلت به أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مجرد سلسلة من الرجال المجاهيل تناقلوا ما سمعوه دون ضبط أو إتقان أو وعى بحيث يتسنى لكل من أراد أن يدس قولا على المعصوم صلى الله عليه وسلم فإنه يسهل عليه ذلك، ومن ثم فإنه يختلط الحابل بالنابل فى الروايات، ويصير الأمر فوضى، وهذا ما ذهب إليه البعض من عدم وجود ضابط يضبط النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أى عقل يقول هذا وأى جهل بالحديث وعلوم الإسناد وبمعايير الضبط والنقل عند الرواة يدعى ما يدعيه هؤلاء، فى الوقت الذى تراكمت فيه الدراسات الغربية التى تشيد بعلوم الإسناد وبسبق المسلمين غيرهم فى الضبط والتوثيق بمفاوز لا تستطيع أية أمة أن تدعى أنها قاربت أو شابهت الأمة الإسلامية فى هذا.
الثابت عندى أن الله سبحانه وتعالى كما حفظ القرآن بمعجزة وبغير أسباب، فقد حفظ أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينالها الدس والتحريف بالكلية، ولكن هذا الحفظ له أسباب وكلاهما داخل فى مفهوم قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
لقد جمعت السنة من الأمصار المختلفة جمعا دقيقا يكاد يصل إلى حد الإعجاز، ووجه هذا الإعجاز أن ما جمعه الرواة أصحاب الرحلات من الحديث ببلاد ما وراء النهر توافق توافقا دقيقا لفظا ومعنى مع ما جمعه غيرهم من بلاد الحجاز والشام والعراق ومصر، لأن الصحابة الذين تفرقوا فى الأمصار نقلوا وأدوا السنة بأمانة وحيادية ودقة أدت إلى التطابق عند الجمع مرة أخرى.
وقبل تدوين السنة قامت علوم كثيرة لخدمة الإسناد وصيانته من العبث والخلل، فقامت علوم لتحفظ أسماء الرواة وأنسابهم ووقت ولادتهم ووفياتهم، وعلوم أخرى تحفظ أحوالهم من وقت تحملهم إلى مماتهم من حيث دقة ضبطهم أو خفتهم، وعلوم تفرق بين المتشابه والمتفق بين الرواة من الأسماء والأنساب والكنى، بحيث لا يختلط راو ثقة براو ضعيف، ولما وجدوا بعض الرواة يتساهل فى صيغ التحديث كأخبرنا وحدثنا وعن، نجد أنهم ميَّزوا بين المدلسين من الرواة وغيرهم حتى لا نقع فى مزالق التدليس.. إنها بحق علوم كثيرة وضخمة ومتشابكة كلها عملت على هدف واحد وغاية واحدة ألا وهى صيانة الإسناد الناقل لحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فكيف بنا نهدر كل هذه الثروة العظيمة الضخمة لأجل أن فلانا لا يعى ولا يدرك كيف جمعت السنة وكيف ضبطت السنة وكيف دونت وكيف شرحت وكيف استنبط منها... إلخ.
إننا لن نهدم علوم الإسلام والسنة لأن بعضهم عاجز عن فهم كيفية التعامل مع مفاتيح هذه العلوم، كما أننا لن نتركه يهدم تلك الثوابت ويحطم الجبال العالية الضخمة لأن هذا الميراث ليس ميراث الأزهر وحده ولا ميراث علماء الفتوى وحدهم، إنه ميراث وتراث الأمة المحمدية كلها وللحديث بقية.