لن يجرؤ مشايخنا على تنقية التراث أو وضع لبنة فى بناء جديد، البضاعة القديمة مربحة، كثير المرض كثير التردد على الطبيب للعلاج، أعظم الأرباح من الجهلاء والمرضى. إن تجديد الخطاب الدينى وفض الاشتباك بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، بين عمومية اللفظ وخصوصيته، بين التناقض الواضح بين التراث والنظريات العلمية، هو مسؤولية الدولة والمثقفين، وليس مسؤولية المؤسسات الدينية. تاريخيا، لم يثبت تجديد الخطاب من داخلها، وحين حاول البعض هذا، حوكم وفُصل من عمله. الشيخ على عبدالرازق عن كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذى رفض فيه فكرة الخلافة وأيد إقامة الدولة المدنية، حاكمه الأزهر واستبعدوه من هيئة العلماء، ومن قبله الإمام محمد عبده، أقالوه من الأزهر لمحاولاته تجديد الخطاب الدينى.
فيما قال: «إن رجال الدين الإسلامى فشلوا فى إدراك فائدة العلوم الحديثة، وإن الأزهر لم يقم بواجبه لإيقاظ العالم الإسلامى، ويستوجب علينا دراسة التاريخ والأديان والحضارات الأخرى لمعرفة سر تقدمهم، لأنه ليس هناك من سبيل لثراء الأمة سوى العلوم والإدارة والتعليم».
إن مسؤولية الأزهر ليست تجديد الخطاب الدينى، بل تنقية المواد الدراسية لتلاميذ الأزهر فى المراحل المختلفة من مناهج تكفيرية وخلافية مع العقل والعلم. العقل مناط التكليف الإلهى، والأديان لا تتعامل فى غرف مغلقة، وإثباتها مسؤولية العقل، وعلى الأديان مساعدة العقل بصدق منطقها، كيف يحمل الأزهر مشعل التنوير ومواده الدراسية تحمل هذا التناقض مع ذات العقل الحاكم الفاصل فى قبول التكليف؟
خذ مثالاً، فى «كتاب الإقناع لابن أبى شجاع» يدرس فى الثانوى الأزهرى، أن القتل عقوبة المرتد وتارك الصلاة، ويجوز أكل لحمهما نيا دون شواء ودون استئذان الحاكم. المثال الثانى عن الدية «وهى ما يدفع عوضا لأسرة المقتول خطأ» فى نفس الكتاب، لا تختلف الدية بالفضائل أو الرذائل (تتساوى الدية للرجل المسلم، كان صالحا أو فاسقا) وتختلف الدية وقيمتها باختلاف الأديان والذكورة والأنوثة، فإذا قتل مسلم تارك الصلاة أو المرتد أو الزانى المحصن فلا دية لأى منهم عليه ولا كفّارة. المرأة والعبد ديتهما نصف دية الرجل (ابن تيمية يفتى بأن المرأة والمملوك «العبد» أمرهما واحد). ولا يقتل المسلم بكافر إلا إذا اعتاد المسلم قتل الكافرين دون سبب، يصبح لأهل القتيل من غير المسلمين نصف دية الرجل المسلم.
مثال آخر، الحمل فى المذاهب الأربعة مدته عند الحنابلة والشافعية أربع سنوات، والمالكية خمس سنوات، والحنفية سنتان (تستطيع امرأة مات أو غاب عنها زوجها أن تحمل وتلد وينسب الولد للمتوفى أو الغائب وفقا لأى مذهب)، مخالفا العلم الذى حدد مدة الحمل بتسعة أشهر إذا زادت أكثر من خمسة عشر يوما يصبح الجنين فى رحم الأم هالكا لا محالة، وخطرا على الأم، يستوجب إنزاله بالطرق الحديثة (شهد الإمام مالك أن جارة له صادقة هى وزوجها، حملت ثلاثة بطون فى اثنتى عشرة سنة) هل يصدق التلميذ مالك أم يصدق العلم؟ هل يثق فى العلم أم فى جارة مالك؟ وهل يقبل التلميذ أو الأستاذ من زوجته أو ابنته هذا؟
مثال آخر يدرسه عن بعض المذاهب، فى عدم وجوب شراء الرجل الدواء لامرأته إذا مرضت، ولا يحق لها أجرة طبيب، ويجوز له إطعامها إذا مرضت. ولها أجرة حمام مرة واحدة شهريا لتتطهر من دنس الحيض، ويشترى الزوج لامرأته كسوة فى الصيف وكسوة فى الشتاء، إذا وافق ذلك النكاح، وإلا وجب إعطاؤها أول كل ستة أشهر. لا يجوز لها أن تشترى كسوتها بنفسها بل يشتريها الزوج مرتين حسب عسره ويسره، فإذا امتنعت المرأة عن إشباع شهوة الرجل حتى لو كان السبب خارجا عن إرادتها (العجز أو المرض أو الملل أو الكره) سقطت النفقة عنها، وصل الأمر لعدم إلزام الزوج بشراء كفن لامراته للدفن، تماشيا مع فكرة انقضاء الاستمتاع بها.
وما جاء فى الوثيقة العمرية عن التعامل مع أهل الذمة وهم جيرانه وأصدقاؤه، كيف نسمح أن يدرس التلميذ حتى لو كان الأمر دراسته للتراث، إنه يجب على المسيحى أن يجز مقدم الرأس حتى لا يتشبّهوا بالمسلمين، وألا يركبوا الخيل بل يركبوا الحمير دون سرج، ولا يبدأهم هو بالسلام، ولا يهنئهم ولا يعزيهم، وإذا قابلهم فى الطريق يضيقه عليهم حتى يدفعهم إلى السير فى أضيقه، ولا يرتدوا الصلبان فى مكان ظاهر، ويقيموا شعائرهم فى صمت وفى سرية، ولا يجوز بناء كنيسة لهم فى ديار المسلمين، ولا يجوز تعلية بيت المسيحى عن بيته. أليس هذا مبررا شرعيا لبغضهم وإذلالهم وحتى قتالهم وهم جيرانه؟ ومطلوب من التلميذ الإجابة عن صحة كل هذا فى ورقة الامتحان، رغم مخالفتها قناعاته ومنطق العقل. هذا قليل من كثير لا يتسع المجال لذكره. البيت من الداخل يحتاج إلى إعادة ترتيب، وبيع قديم متهالك، وشراء جديد نستخدمه لسلامتنا وسلامة الغير.
نعود لما قاله الإمام محمد عبده، العلم هو السبيل للنجاح والتقدم وليس بغيره.