توفى مؤسس سنغافورة الحديثة، لى كوان يو، عن 90 عاماً، وودعه الشعب فى جنازة مهيبة تحت الأمطار، وكتب نيوتن أنه كان ديكتاتوراً، ولكنه حول بلاده من ميناء فقير بائس إلى دولة من أكثر دول العالم رفاهية.
وبالأرقام متوسط دخل الفرد سنوياً فى سنغافورة 59 ألف دولار أمريكى، و90 فى المائة من السكان يملكون البيوت التى يعيشون فيها، ونسبة الفساد فى الإدارة الحكومية من أقل النسب حتى إنها تنافس دول شمال أوروبا.
ولا خلاف على أن لى كوان يو كان ديكتاتوراً، بل ولاتزال حرية التعبير وحرية التجمع فى سنغافورة تخضع لمراقبة صارمة، ولكن تجربة سنغافورة تثير، وعلى نحو مركب وعميق، المعضلة الكبرى فى عصرنا، وهى التوفيق بين الحرية والعدل الاجتماعى، والمعضلة الكبرى فى كل العصور، وهى التوفيق بين حرية الفرد وحرية المجتمع.
هل كان من الضرورى أن يذبح محمد على ضيوفه الذين دعاهم للعشاء ليبدأ بناء مصر الحديثة، هل كان من الضرورى أن يعتقل عبدالناصر من اعتقلهم ليبنى السد العالى، هل كان من الضرورى أن يصدر السادات قوائم المنع ليحارب فى 1973، وقوائم المنع والاعتقال حتى يواجه الفتنة الطائفية ويتم استرداد طابا عام 1980؟ والأمثلة كثيرة، خاصة فى القرن العشرين، ولكنى أقتصر على هذه الأمثلة من تاريخ مصر الحديث والمعاصر.
كان ماركس يقول إن الدين أفيون الشعوب، ولم يكن المقصود معاداة الدين كما أشاع من يعتبرون الظلم أساس الحكم، وإنما من يستخدمون الدين وسيلة لاستمرار الظلم، وإذا سألت من يعانى الفقر والمرض هل يختار بين تغيير حاله وحرية التعبير، فمن البديهى ماذا سيختار، ولكن الحقيقة أن الخطأ فى السؤال، وذلك حتى لا تتحول الحرية إلى أفيون المثقفين، والمؤكد أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
وما يهمنا فى مصر والعالم العربى من تأمل تجربة لى كوان يو فى سنغافورة أنه اعتزل الحكم عام 1990 عندما بلغ 65 سنة، وعاش ربع القرن الأخير من حياته خارج السلطة، وعندما نقارن بينه وبين الديكتاتوريين العرب يكون علينا الاعتذار للديكتاتورية، فقد حكم القذافى ليبيا 40 سنة حتى قتل وهو يخرج من الماسورة، وحكم صدام العراق عقوداً حتى خرج من الحفرة وحوكم وأعدم، ومثله صالح فى اليمن حتى حرق ولايزال يسعى للحكم، والأسد الكبير فى سوريا وولده الذى لا يريد ترك الحكم إلا على أطلال وخرائب ولاجئين يبلغ عددهم أضعاف اللاجئين الفلسطينيين.
وليست ليبيا والعراق وسوريا واليمن بلاداً فقيرة مثل سنغافورة، وإنما بلاد ثرية يمكن أن يتمتع سكانها برفاهية لا تقل عن رفاهية سكان سويسرا أو اليابان أو الدنمارك، ولايزال ذلك ممكناً وسوف يتحقق يوماً، وقد ثارت الشعوب العربية ضد الديكتاتورية وقررت التغيير، ومرة أخرى كما قال ماركس «التاريخ يتقدم، ولكن عبر منحنيات قذرة»، تماماً كما يولد الجنين من أقذر الدم.