مصر- كانت ولاتزال- لديها التزامٌ أكيدٌ بالمشاركة فى حماية أمن الأشقاء العرب فى دول مجلس التعاون الخليجى، مثلما لديها التزامٌ مماثل بالمشاركة فى الترتيبات الدولية لتأمين الملاحة العالمية فى البحر الأحمر.
صحيحٌ أن الواقع السياسى- أى موازين القوى على الأرض- ليس فى صالح العرب. سواءٌ بالنظر إلى تفوق المشروع الإيرانى، أو تفوق المشروع التركى، أو غطرسة المشروع الصهيونى، أو تقدم المشروع الإثيوبى.
لهذا قد يكون من الإخلال بالصورة أن يجرى التركيز- فقط- على الخطر الإيرانى دون سواه، ثم يجرى- بعد ذلك- التركيز على امتداده فى اليمن دون سواه. إذ علينا أن نتحسب ردود فعل غير معلومة من أى بقعة عربية أو إسلامية فيها نفوذ إيرانى أو فيها وجود شيعى.
المشاركة السنية فى حرب اليمن- تحت القيادة السعودية- تمتد من باكستان فى أقصى الشرق الإسلامى حتى المملكة المغربية فى أقصى الغرب الإسلامى، وهذه المشاركة- بقصد أو بدون قصد- من الوارد أن تحرك وتحرض وتحفز على تكوين محور شيعى مضاد، لن يجد صعوبة فى أن يكون له أنصار ومتحمسون فى مشرق الإسلام ومغربه، بل فى داخل الجزيرة العربية والخليج والهلال الخصيب، وهى الإطار والمسرح الجغرافى والتاريخى والعقائدى للحرب المُحتملة بين السعودية وإيران.
ليست لنا- كعرب- أى مصلحة فى حرب بين السعودية وإيران، بل ليست لنا مصلحة فى أن تضع دولة عربية كبيرة بحجم السعودية رأسها برأس فصيل يمنى واحد، مهما تكن خطورته ومهما يكن من يقفون خلفه، فالأشقاء فى السعودية يعرفون اليمن مثلما يعرفها أهلها أو أكثر، ولديهم تاريخ وتراث طويل فى ترويض الفرقاء اليمنيين، بالتمويل، بالتسليح، بلعب المخابرات، بشراء ذمم من يقبل بيع ذمته، بشراء ضمائر من يقبلون بيع ضمائرهم، باللعب على أوتار المنظومة القبلية، بالعزف على التنوع المذهبى، باستثمار فائض المال السعودى فى إغواء وإغراء وإسكات وتوظيف فائض البؤس والفقر اليمنى. وقد سبق للأشقاء السعوديين استخدام هذه المنظومة الفتاكة، فى أسوأ حرب خاضوها بالوكالة ضد القوات المصرية التى ذهبت لمناصرة الثورة اليمنية فى الستينيات من القرن الماضى.
أعلم أن سلاح الجو السعودى تُتاح له إمكانات فائقة التقدم- لو كانت تُتاح لنا لما تجرأت إثيوبيا على بناء سد النهضة، رغم أنوفنا- لكن أخشى أن يكون هناك عدم ممانعة دولية فى توريط السعودية فى حرب مباشرة أو بالوكالة مع إيران، وهنا ينبغى أن نسجل عدة ملاحظات:
أولاً: المجتمع الدولى الذى رحب بالعاصفة السعودية فى اليمن هو المجتمع الدولى الذى لم يرحب بإجراء مصرى رمزى ضد داعش فى ليبيا، حين ذُبحت أعناق المصريين وساحت دماؤهم فى مياه البحر المتوسط على مرأى من العالم كله.
ثانيا: المجتمع الدولى الذى رحب بتأسيس التحالف السنى بقيادة السعودية للحرب ضد الحوثيين فى اليمن خارج نطاق الأمم المتحدة هو المجتمع الدولى الذى رفض اقتراح مصر بتكوين تحالف من داخل الأمم المتحدة لحرب إرهاب داعش فى ليبيا.
ثالثاً: أمريكا التى أعطت الضوء الأخضر للأشقاء السعوديين هى أمريكا التى وقفت على الحياد طوال الفترة التى اكتسح فيها الحوثيون شمال اليمن وجنوبه، فلم تغلق سفارتها ولم تسحب عناصرها إلا قبل أيام من الحرب.
رابعاً: أمريكا التى تزعم أنها تقف مع الرئيس الشرعى فى اليمن لم تحرك له ساكناً، ووقفت تتفرج عليه وهو يتنقل- كالفأر المذعور- أمام قطط الحوثيين الجائعة، يهرب من صنعاء إلى عدن، ثم يهرب من عدن إلى خارج البلاد.
خامساً: أمريكا التى تعطينا الإشارة الخضراء للمواجهة بالوكالة مع إيران وللحرب المباشرة مع الحوثيين هى أمريكا التى تتعاون- بكل الوسائل- مع إيران فى أفغانستان والعراق، بل هى أمريكا التى قدمت أفغانستان والعراق على طبق من فضة للنفوذ الإيرانى، بل هى أمريكا التى أراحت إيران من أكبر خصومها: طالبان فى أفغانستان وصدام فى العراق، ثم هى أمريكا التى تعلن- بكل وضوح- أن مشكلتها فى اليمن هى مع تنظيم القاعدة وليست مع الحوثيين على الإطلاق، ثم هى أمريكا التى تؤمن- بعقليتها البراجماتية- أن الحوثيين هم من يسيطرون- بالفعل- على معظم الأراضى اليمنية، ولم يصدر عنهم ولا منهم أى تهديد للمصالح الأمريكية، ولن تمانع أمريكا فى اعتماد الحوثيين إذا أبدوا التزاماً صريحاً بالتعاون مع الأمريكان فى ملف القاعدة مثلما كان يتعاون الرئيس السابق على عبدالله صالح، ومثلما كان يتعاون نائبه وخليفته الذى جاء بترتيبات أمريكية- خليجية الرئيس الهارب عبدربه منصور هادى.
آخرُ الكلام: قد يكونُ مفيداً أن تقف الحربُ عند هذه الحدود، وأن يتداعى الجميعُ إلى حوار وتفاوض وحل سياسى. أتفهم أن يقع صدام مسلح محدود بين الجيران والأشقاء، ولكن أن يتحول الصدامُ إلى حرب بالمعنى الفنى لكلمة حرب فهذا يعنى:
أولاً: خروج السياسة السعودية عن حذرها التقليدى الحكيم إلى مغامرة جديدة عليها، بل غريبة عليها، أتفهم أن تصل السياسة السعودية إلى حدود الغضب، لكن لا أتفهم أن يصل الغضبُ الطارئ إلى تخوم الحرب المفتوحة.
ثانياً: تجارب الحرب المباشرة أو بالوكالة فى الإقليم يخسر منها من يبدؤها. العراق خسر من حربه المباشرة مع إيران على مدى عقد الثمانينيات، بل كانت هذه الحرب هى أول الطريق لدمار العراق نفسه. كذلك مصر خسرت من حربها- بالوكالة- مع السعودية وحلفائها فى اليمن فى عقد الستينيات، بل كانت هذه الحرب السبب المباشر لهزيمة مصر والعرب الكبرى أمام العدو الصهيونى فى 5 يونيو 1967م.
الحروبُ مع الجيران والأشقاء نخسر منها ويخسر منها الجيران والأشقاء، فقط يستفيد منها الأعداء الحقيقيون الذين يعطوننا الإشارة الخضراء، حتى نعود إلى جاهليتنا الأولى، نعود قبائل نقتتل فيما بيننا اقتتال داحس والغبراء.
والحديث مستأنف.