وقف الخلق ينظرون كيف نبنى قواعد المجد. هكذا هي مصر يا أحبائي. وهكذا هو شعبها الطيب «الكيوت» الحبوب. منذ بضعة أسابيع فقط كنا نحارب العالم كله. كانت أمريكا وإيران وقطر وتركيا والاتحاد الأوروبي وليبيا، ولا ننسى الإرهاب، كل هؤلاء كانوا متحالفين ضد مصر. وشاهدنا على مدى الأسابيع الماضية كيف قاد الإعلام حملة شرسة للدفاع عن مصر وشرفها.
ثم وفي أيام انقلب الأمر. وها هو العالم كله أتى ليركع أمام مصر في مدينة السلام والأحلام شرم الشيخ. رأينا مثلما قال الرئيس كيف يحبنا العالم، لأننا شعب طيب و«كيوت» وحبوب.
يقول الخال عبدالرحمن الأبنودى بأن السيسي يذكره باخناتون. وأنا أقول له: «لع يا خال». السيسي يخلق مصر جديدة بقرارات جريئة تعيد تشكيل الهوية المصرية على نظافة وروقان. لا مساحة مقارنة بين السيسي وإخناتون أو مينا نارمر أو حتى عبدالناصر. كل هؤلاء كانت رؤيتهم مركزية، تقوم على حبس المصريين في واد ضيق وعاصمة مركزية للسيطرة عليهم، أما السيسي فهو يخلق مصريًا جديدًا لا مركزيًا منفتحًا أكثر من الانفتاح، وطموحه يصل لمروحة سقف العالم.
منذ ظهرت مصر للوجود، والمصريون يعيشون على وادى النيل، في الخير والدفء، المياه تجري والدلتا تطرح الغذاء والكساء. أكل ومرعة وقلة صنعة. ومدنهم بنوها على ذات المجرى المائي في المنتصف، كانت هليوبوليس العاصمة القديمة، ثم القاهرة التي ظهرت كروح جديدة، لكنها متصلة بما مضى. الآن بشجاعة نادرة يأمر السيد الرئيس بتغيير كل هذا، وإنشاء عاصمة جديدة على نظافة، ومصر جديدة لا تقوم على النهر أو تنام في الوادى.
لقد رفرف قلبي حينما شاهدت مخطط العاصمة الجديدة، والأهم حينما علمت أن شركات إماراتية كبيرة هي التي ستضطلع بالمشروع. فبعد عقود بحثت فيها مصر عن التطور والتقدم بنماذج من الشرق والغرب، حان الوقت لنقتدي بنموذج عربي يناسب بيئتنا السخيفة. وهو النموذج الإماراتى أحد أبرز نماذج التنمية وأسرعها وأكثرها استقراراً.
في النموذج الإماراتى يجب البداية من على نظافة. لنذهب إلى الصحراء، ولنأخذ الشباب الجديد السعيد النظيف الذي يرتدى البدلات الرسمية ويستطيع التقاط «السيلفي». ولنبنِ إنسانًا جديدًا. ليس الإنسان الفلاح المزارع ابن الوادي الواخد على الراحة والرحرحة.
في العاصمة الجديدة كل شيء سيكون منظمًا، والحكومة إلكترونية وإشارات المرور تعمل بالعقل الإلكترونى. جميع المصريين الذين زاروا دبي، حلموا دائماً بمدينة كتلك. مدينة لا تلتفت للهراء حول إيقاع المدينة وروحها. من يبحث عن الأرواح يمكن أن يذهب للكنيسة أو الطبيب النفسي. لكن المدن ليست أماكن للأرواح.
إن جزءًا كبيرًا من مشكلة القاهرة وأزمة الإنسان المعاصر فيها، ينبع من هذا الثقل الذي يشكله التاريخ على ظهرنا، والتكلفة الضخمة بلا عائد لاستثمار هذا التراث والحفاظ عليه. لننظر مثلاً إلى نموذج شارع كالمعز، فبعد أقل من عشر سنوات على تجديد وافتتاح الشارع. عاد الشارع إلى ما كان عليه. زبالة في كل مكان. وسيارات، ولافتات قبيحة بدل اللافتات الموحدة.
لماذا حدث هذا؟
لأننا غيّرنا وطوّرنا الشارع وتركنا الإنسان في ذات المكان، بذات القيم والأخلاق. لكن لو كنا نقلنا الشارع واستثمرنا في تفكيك الجوامع والمنازل الأثرية ونقلناها لمدينة نظيفة كشرم الشيخ مثلًا، كان الشارع سيتحوّل إلى أهم بقعة للجذب السياحي، وسيجد مع الناس النظيفة العناية اللازمة للأثر والحفاظ عليه.
إن كل المحاولات لإصلاح وتطوير القاهرة فشلت وستفشل، لأن هذه المدينة قد بلغت الحد الأقصى للحياة حتى أصبحت غير صالحة للحياة، وعائقًا حقيقيًا أمامنا كمصريين للتطور والتحديث وأن نكون أم الدنيا و«قدها» في الوقت ذاته.
إذا كان محمد علي هو باني مصر الحديثة، فالسيسي بمشروع العاصمة الجديدة هو باني مصر ما بعد الحديثة. والإنسان المصري الجديد سيولد مع السيسي في العاصمة الجديدة. شباب متعلم وذكي ودارس للاقتصاد والهندسة والطاقة المتجددة، مثل خيرة الشباب الذين أتوا من جميع أنحاء العالم لبناء دبي وعاشوا فيها كسكان لا كمواطنين.
أحد الدروس المهمة من دبي هو حتمية التخلص من هذا الهراء حول المواطنة والمساواة وغيرهما من الهراء الاشتراكي الوطني الذي لم ينتج إلا الخراب. في دبي ليس هناك مواطنة، بل هناك سكان. والإنسان يكتسب قيمته ويحصل على حقوقه من خلال عمله وجهده، وليست حقوقًا مكتسبة، لأنه إنسان. لا مواطنين كذلك في دبي، بل هناك عائلات وأسر إماراتية بنت الإمارات منذ عقود. وهم يكتسبون حقوقهم التاريخية من استمرار البيعة والولاء. لا انتخابات ولا برلمان ولا أحزاب ولا حركات سياسية في دبي. لا نحتاج لهذا الهراء في العاصمة الجديدة يا سيادة الرئيس. نريد النموذج الإماراتي كاملًا لأنأى خطأ في النقل قد يُفشِل المشروع.
تخيّل سيادة الرئيس لو كان هذا المؤتمر قد أقيم في زمن الأحزاب والحركات أيام حسنى مبارك. كانت المعارضة والصحافة سيصرخون بأنه لا للخصخصة.. لا للبنك الدولي، لا للعاصمة الجديدة. لننقذ القاهرة. الحمدلله أن جميعهم في السجن أو تم نفيهم.
نريد هذا النهج أن يستمر ويزدهر.
***
هامش:
تثار أسئلة واستفسارات حول مصير العاصمة القديمة القاهرة. وحتى لا ينتقل وباؤها إلى العاصمة الجديدة، فيجب إنشاء سور ضخم بطول الطريق الدائري حول المدينة، وتحويلها لمركز خدمات للعاصمة الجديدة. ستحتاج العاصمة الجديدة إلى من ينظف المجاري للباشوات والأفندية الجديدة، وإلى مكان تُلقِي فيه العاصمة الجديدة نفاياتها. القاهرة ستوفر الأيدي العاملة الرخيصة التي ستقوم بهذه المهمات، والمباني الحكومية القديمة يمكن تحويلها لتصبح خرابات لنفايات العاصمة الجديدة.