منظر أشجار حديقة الميريلاند، وهى ملقاة على الأرض، تنزف دماً، يكشف عن أنه لا مسؤول فى هذا البلد يؤمن بحق كل إنسان يعيش على أرضه فى الحياة!
وما أقصده بـ«الحياة» هنا هو ما نراه جميعاً عندما نسافر، وعندما نرى بأعيننا، خارج الوطن، أن من حق كل مواطن أن يجد متعة فى العيش فوق أرض بلده، لا أن يواجه عذاباً فوقها فى كل ساعة!
كنت أنوى أن أكتب عن مأساة العمال الذين سقطوا فى قاع ترعة المريوطية، وكنت أقارن، بينى وبين نفسى، بأيهما أبدأ، بالأشجار الذبيحة، أم بالعمال المغدورين فى قاع الترعة؟!.. ولم أجد فرقاً بين الحالتين، ففى كل حالة منهما كانت الاستهانة بحق الإنسان المصرى فى الحياة حاضرة بقوة، وكان الإنسان فيهما، معاً، لا يساوى وزنه تراباً.
وسوف أروى لكم هذه الحكاية: كنت ذات يوم فى روما، وفى حديقة الأكاديمية المصرية هناك، لاحظت أن فرعاً فى شجرة كبيرة قد مال حتى لامس الأرض، وسألت الدكتور مصطفى عبدالمعطى، مدير الأكاديمية وقتها، عما يمنعه من إزالة الفرع المائل؟
وما سمعته من الدكتور مصطفى أنه يستحيل عليه أن يزيل ورقة من أى شجرة فى حديقة الأكاديمية، إلا إذا رجع إلى بلدية روما، وهو إذا رجع إليها فسوف لا يزيل الفرع المائل أو غيره، من تلقاء نفسه، وإنما سوف يأتى موظف من البلدية يحدد أولاً ما إذا كان الفرع المائل فى حاجة إلى إزالة حقاً أم لا، فإذا قرر إزالته، فإنه هو، أى الموظف، الذى يتولى ويشرف على إزالته وبمعايير محددة سلفاً، حتى لا تضر عملية الإزالة بحق الإنسان فى أن يتمتع بالشجرة، وخضرتها، ومنظرها، وكل المعانى التى تبعث بها أى شجرة فى وجدان أى إنسان عنده ضمير!
بحثت عن شىء من هذا كله.. مجرد شىء منه.. فى حديقة الميريلاند، فلم أجد بكل أسف، وإنما وجدت ما يستهين بعقل كل مصرى، فضلاً عن الاستهانة بحياته نفسها!
تصور، مثلاً، أن من بين الكلام الذى قيل، تبريراً لذبح أشجار الحديقة، أن الذى قطعها كان ينوى نقلها إلى مكان آخر فى الحديقة نفسها!!.. وهو كلام عبثى ومضحك كما ترى، لأن هذه هى المرة الأولى التى سوف نسمع فيها عن أن الشجرة الكبيرة النادرة، ذات الفروع المتشابكة، يمكن قطعها ونقلها إلى مكان آخر تنمو فيه!
وما يبعث الأسى فى نفسك حقاً أن «المصرى اليوم» وحدها، تقريباً، هى التى اهتمت بالموضوع، وهى التى راحت تتابعه، أما سائر الصحف ووسائل الإعلام فقد غابت تماماً، وهو الأمر الذى يبين لك أن مسافة كبيرة لاتزال بيننا وبين رسوخ الوعى فى أعماقنا بقيمة الشجرة، كمعنى، فى حياة الإنسان!
تبحث وسط الكلام المنشور عن المسؤول عن ذبح أشجار الحديقة، فلا تكاد تصل إلى شىء، بل وتكتشف أن المحافظ د. جلال سعيد قد أوقف الذبح «مؤقتاً».. وكأن الذبح يمكن أن يعود من جديد بعد تهدئة الرأى العام، وقد كان الاعتداء على مجرد فرع فى شجرة هناك، لا على شجرة، فضلاً عن ذبح أشجار بكاملها، كفيلاً بأن تقوم الدنيا فى أى بلد يحترم مواطنيه، وأن يُحال الفاعل إلى تحقيق فورى، وأن يتلقى عقابه علناً، وأن يكون عبرة لغيره، وأن يكون العقاب من النوع الذى يروع الذين لا يفكرون إلا فى الصعود بالإبراج على حساب الأشجار!
إننى أتوقف عند اهتمام الدكتور خالد فهمى، وزير البيئة، بالموضوع، وأدعوه راجياً أن يواصل اهتمامه إلى نهايته، وأن يكشف لنا عن اسم الشخص المجرم الذى كانت الأشجار النادرة تخرج لحسابه مقطوعة على سيارة، وأن يكون الردع فى انتظار كل المجرمين الذين لم تهتز فى رؤوسهم شعرة، وهم يطيحون بأشجار نادرة، أو حتى غير نادرة، ومن أجل ماذا؟!.. من أجل إقامة جراج!!
لو كان لأشجار الميريلاند ثمن فى نظر معدومى الضمير، لكان لعمال المريوطية ثمن فى المقابل.. فالمأساة واحدة فى الحالتين!