عرفت منذ زمن بعيد أننى الشخص الوحيد غير المهم فى هذا العالم الذى يمتلأ بالحكماء والزعماء والقادة والأنبياء. وعيوبهم- إن وُجدت- أنهم أطيب أو أكرم أو أفضل من اللازم. وربما لن تصدقونى أن أحدهم قال لى مرة إن عيبه الوحيد أنه مؤمن زيادة عن اللزوم!
أما رأيى الحقيقى فهو أننا لو كنا جميعا ملائكة فمن أين يأتى اللصوص والأوغاد؟ وحتى التاريخ يُكّذب هذا الهراء. أعظم الأحداث التاريخية جاءت بسبب أهداف تافهة عارية عن العظمة المزعومة. أمريكا بجلالة قدرها تم اكتشافها جغرافيا بسبب التوابل التى كانت فى العصور الوسطى أثمن من الذهب. وكان الرجل الغنى جدا يصفونه بأنه (كيس من البهارات) وكانوا يزنونها بمقياس الذهب بعد إحكام إغلاق النوافذ خوفا من ريح عابرة تذهب ببعض المسحوق الثمين! كل ذلك برغم أن التوابل كانت بلا ثمن تقريبا فى موطنها الأصلى، حيث جزر التوابل أو جنوب شرق آسيا بتعبير هذا العصر، ولكن قوافل التجارة كانت تمر برحلات مهلكة مع تعرضها لقراصنة البحر ولصوص البدو ومكوس التجارة حتى تصل للمستهلك الغربى وقد صارت أغلى من الذهب. ورغبة الغرب فى التملص من سيطرة الشرق المسلم على طرق التجارة كانت هى السبب الحقيقى لاكتشاف أمريكا، للوصول إلى جزر التوابل من ناحية الغرب، ولم يعرفوا وقتها أنهم يصنعون أكبر بلطجى فى التاريخ.
وأوربا المسيحية لم يبقها مسيحية إلا فراغة عين الخليفة الأموى، الذى أزعجته انتصارات موسى بن نصير، الذى اجتاح أوروبا كسكين تقطع قطعة زبد! وخشى أن ينصب نفسه ملكا على البلاد البعيدة فأمره بالتوقف، وكانت الخطة الأصلية أن يجتاح أوروبا شرقا بعد عبوره مضيق طارق، حتى يعود إلى دار الخلافة فى دمشق. ولكن الخليفة المرتاب أمره بالعودة لدمشق قبل استئناف الفتح حيث كافأه على طريقة الخلفاء الأمويين، بالجلد والسجن طبعا.
وإذا كانت حروب العصر الحديث تقوم على ادعاء أساس أخلاقى كاذب وحقيقته برميل بترول! فالتاريخ يحفظ لنا أن فرعون موسى كان أكثر صدقا مع ذاته. فقد أصدر أمره الملكى بتعقب سيدنا موسى عليه السلام وقومه الفارين بأغرب مبرر فى التاريخ (وإنهم لنا لغائظون) فجعل غيظه الشخصى مبررا لحشد الجيوش.
وهذه الدوافع غير النبيلة يشهدها عالم الفنون بعشرات الأمثلة الصارخة على التباين بين مذاق الشهد وقرص النحل، فمن أجل أن يجد شكسبير طعام العشاء وخشب الموقد فى بلاده الباردة جعل الرياح تتحدث والبحار تهيج والأشجار تتحرك. ونصب سيركا من الملوك الغاضبين ومؤامرات القصور والعشاق المنتحرين والنبوءات المتحققة، وصنع عالما شديد التعقيد والجزالة، كل هذا من أجل إرضاء صاحب المسرح الغاضب الذى يملك طعام العشاء. وهو نفسه لم يكن يقدر قيمة ما أبدعه من فن مدهش، ولئن قام من قبره ستفزعه مكانته الأدبية الراسخة حتى لأظنه سيموت مرة أخرى من (الخضة). لا تنس أيضا قسوة أم كلثوم على ملحنيها الذين صنعوا مجدها.
والخلاصة أن الأغبياء وحدهم هم من تعجبهم لعبة التظاهر بالأهمية. أعرف رجلا حكيما يفهم الناس ويعرف ما يريدون سماعه. لذلك يقول لأصدقائه هامسا فى خطورة: «اسمع.. أناحاقولك الخلاصة»، فيصمت صديقه فى رهبة لاستخلاص الحكمة من الرجل الخطير المجرب، فيستطرد الرجل الحكيم هامسا فى أذن صديقه: «الناس كلهم ولاد كلب إلا أنا وأنت».