لم أحب أغانيه ولا صوته فى يوم من الأيام، على عكس تقريبا كل جيلى المفتون بأغانى منير، كنت فى فترة مراهقتى (فى الثمانينات) وهى فترة سماع كل شىء أراه مدعيا (فنيا) فلا هو صاحب صوت تطريبى معجز، ولا هو صاحب طلة بهية، ولا ممشوق القوام ورياضى على المسرح، وكانت كلمات أغانيه تصيبنى بالشك والاستغراب من هؤلاء الذين يكتبون له، فهى أحيانا غير مفهومة وأحيانا مضحكة والأمثلة كثيرة، لكنه أيضا غنى للأبنودى وفؤاد حداد وصلاح جاهين وعبدالرحيم منصور أغانى كلماتها عظيمة لاشك، ولكن ظل الحاجز النفسى يعلو بينى وبين فنه الذى اختلط فيه الثمين من الكلام واللحن بالغث وغير المفهوم، بل الردىء أحيانا، وقبل أن أسترسل فى الكلام سأتوقف لأكتب نقطة هامة جدا (أن حياة الفنان الشخصية وعلاقاته ومزاجه حتى آراءه السياسية هى أشياء تخصه هو فى النهاية والدخول فيها عند تقييم مسيرته والنبش نوع من أنواع سوء الأدب)..
لكننى أكتب كواحد من الجمهور وعلاقته بالنجم فأنا كفرد من الجمهور المصرى العريق، لست من عشاق صوت محمد منير وذلك من أول شريط وحتى حفلة شرم الشيخ الأخيرة، والحقيقى أيضا هو احترامى الكامل لتلك التجربة وذلك المشوار، ووقوعى ككاتب دراما فى غرام الرحلة نفسها رحلة محمد منير من النوبة إلى أم العواصم، ليحوز لقب الملك بشبه إجماع من الجمهور الذى لست واحدا منه، ليصبح منير صاحب لقب الملك بعد ثورة أطاحت بذلك اللقب بعدة سنوات ومن جمهور ضد فكرة الملكية أساسا..
أنا من أولئك الذين يفضلون الطرب وينتصرون له على الأنواع الأخرى من الغناء والتى منها ما يسمى (حالة)، وأسمع مازلت بأذنى وليس بإيقاع دخان السجائر فأطرب للأصوات التى منحها الله الجمال أكثر من الأصوات التى منحها الله الغرابة، بالتأكيد بعد رحيل عبدالحليم حافظ وانتهاء فترة السبعينات بحلوها ومرها خلت الساحة وقفزت الفرق الموسيقية قصيرة العمر قليلة الجمهور ثم اختفت، وتقاسم بعدها الخشبة مجموعة من الشباب الذين صار منهم الآن من هو (الهضبة) ومنهم من هو (الملك) وبينهما ظهرت أصوات حقيقية وقادرة من أهل الطرب كعلى الحجار وزينب يونس ومحمد الحلو ومدحت صالح وظهرت موسيقى حميد الشاعرى وأشياعه وهى الموسيقى التى قدمت الشكل الذكى الخفيف على المضمون، فأصبحت أقرب لحياة الشباب فى ذلك الوقت وإيقاعهم السياسى والاجتماعى، وصعد من صعد وهبط من هبط، وظل محمد منير يشق طريقه بنجاح متواصل ومتفرد،
ورغم أننى لست من جمهور هذا النجاح ولكن لا ينكره إلا جاحد، ولو نظرنا لكافة التجارب الناجحة فى هذا الوطن فى تلك الحقبة ربما نصل إلى نتيجة مثيرة وهى أن نجاح تجربة منير كان جزءا من تجربة كاملة لوطن فاشل، تجربة كاملة ناجحة تعبر بدقة عن أجيال لم تعرف النجاح، فمنير الذى عاصر الجيل الذى ولد مع أنور السادات وغنى للجيل الذى ولد مع مبارك هو المطرب الأنجح فنيا فى العصر الأفشل سياسيا، وحين بدأ المشوار كان هو ورفاقه فى الثمانينات (محمد الحلو وعلى الحجار ومدحت صالح وإيمان البحر درويش) كانوا صوتا للحلم وأنّات للجرح، وذلك بالطبع قبل أن تفتح لهم الدنيا والدولة أبواب الشرعية للظهور والاعتراف بعد أن قامت الدولة بتغييب أصواتهم عن شاشتها لعشر سنوات بحجة الوصاية وبتطبيل من إعلاميين أموات لزمن الفن الجميل (كان عصرا بائسا بكل المقاييس) وظل صوت محمد منير هو الصوت الأشبه باحلام ذلك الجيل الضائعة، الصوت الناجح فى الوقت الفاشل، مرت الأيام وانتهى عصر بأكمله، عصر حزين بالفعل..
وحينما جاءت الثورة لم يعُد للأنين موضع قدم وصارت البلاد فى حاجة إلى صوت جديد لم يظهر بعد.. ربما لأن الثورة لم يكتمل ميلادها بعد.