لأنها - وهى توشكُ - أن تُكمل المائة عام الأولى من عُمرها، تنطوى على الكثير من الدروس السياسية المُلهِمة:
فقد كانت مدنيةً خالصةً، اقتصرت على القوى المدنية وحدها، لم يشارك الجُندُ فى قيادتها، ولم يلحقوا بها فى أى مرحلة من مراحلها.
مثلما كانت وطنيةً محضةً، لم تشارك فيها أى قوى إقليمية أو دولية، بل هى إبداعٌ مصرىٌ خالص.
صحيحٌ أنها - مثل كل الثورات - انطوت على مُفاجآت شعبية عفوية غير مُخططة سلفاً، ومُشاركات شعبية لم تكن متوقعة ولا محسوبة، لكنها - فى الوقت ذاته - لم تكن عفوية فى إدارتها، ولم تكن مُشتتة القيادة، بل لها قيادة واضحة ليست محل تنازع.
كما كانت واضحة الأهداف، تعرف عدوها بوضوح: الاحتلال الأجنبى، والاستبداد الوطنى. وتعرف أهدافها بوضوح: رفع الحماية التى تفتح الطريق لنيل الاستقلال، والدستور الذى يفتح الطريق لغل يد الاستبداد المحلى. وتعرف جمهورها بوضوح: جميع المصريين من أقباط ومسلمين. وتعرف أدواتها بوضوح: المنهج السلمى باستخدام الضغط الشعبى للوصول إلى تحقيق الأهداف عبر التفاوض.
تختلف ثورة 1919م - جوهرياً - عن الثورة التى سبقت عليها، والثورة التى لحقت بها.
الثورة التى سبقت عليها، هى الثورة العرابية 1882م، وبينهما من عمر هذه الأمة سبعةٌ وثلاثون عاماً، تولى الجُندُ قيادتها، صعدت سريعاً، وسقطت سريعاً، فتسببت فى هزيمة المطلب الدستورى وفتحت الباب لعودة الديكتاتورية السقيمة يمارسها الخديو الضعيف توفيق، كما فتحت الباب ليدخل الاحتلال الإنجليزى وليستمر أكثر من سبعين عاماً، وزادت على ذلك أن ضيّعت الجيش نفسه، فقد تم حله على يد الإنجليز، ولما أعادوه بعد سنوات، عاد كقوات شرطة عسكرية تعمل فى خدمة الاحتلال فى مصر والسودان، وتحت توجيهه وإشرافه.
الثورة التى لحقت عليها، هى ثورة 23 يوليو 1952م، انفرد الجُندُ بقيادتها، ولحق بهم الشعب، ومثلها مثل الثورة العرابية، شهدت أروع أنواع الصعود السريع - فى الداخل والخارج - ولكنها انتكست مرتين:
نكسة يونيو الأولى 1967م، حيث استولت إسرائيل على أراض مصرية، تزيد على مساحة فلسطين التاريخية ثلاث مرات، سيناء كاملة مع أطراف من مدن القناة، مما استلزم أن تحتشد الأمة وتقتطع من قوتها لإعادة بناء الجيش من جديد، للتخلص من هذه النكسة الأولى لثورة 23 يوليو.
نكسة يونيو الثانية 2012م، حيث تم تسليم مصر - على مرأى من المصريين والعالم - لحُكم الإخوان، مع تكريمهم بأربع حفلات حاشدة: فى المحكمة الدستورية، فى ميدان التحرير، فى جامعة القاهرة، فى معسكر الهايكستب. مما استلزم أن تحتشد الأمة - من جديد - للتخلص من هذه النكسة الثانية لثورة 23 يوليو.
فى كلتا النكستين كانت القيادة فى يد الجند، وكانت الأمة تتولى تصويب الخطأ، وتدفع - وحدها - فاتورة أخطاء القيادة.
طبعاً: نجحت ثورة 1919م فى رفع الحماية البريطانية المفروضة على البلاد مع اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914م، كما نجحت فى الحصول على الاستقلال، ولكنه بقى استقلالاً منقوصاً، سواء بنصوص إعلان فبراير 1922م، أو بواقع بقاء قوات الاحتلال موجودة فى القاهرة حتى قامت ثورة 23 يوليو.
كذلك، نجحت ثورة 1919م فى جعل فكرة الدستور الذى يقيد سلطات الحاكم ويحفظ حقوق الشعب هى مدار الحياة السياسية، ولكن كان أعداؤها: الملك، أحزاب الأقلية، الإنجليز، قادرين فى محطات كثيرة على الإطاحة بحكم الدستور، والمجىء بمن يحكم بالحديد والنار.
يُحسبُ لثورة 1919م أنها كانت البيئة الحاضنة لإعادة بلورة الهوية القومية للمصريين، كأمة من الفلاحين المُرابطين فوق الطين وتحت الطين من آلاف السنين، تقودُها - لأول مرة - نخبة جديدة متعلمة من أبناء الفلاحين المقتدرين الذين أرسلوا أبناءهم لطلب العلم فى أوروبا، بعد عدة قرون من صدارة المتمصرين المنحدرين من أصول تركية وشركسية وأرمنية وأبخازية وغيرهم.
يُحسبُ لثورة 1919م أنها - بجدارة - أدمجت المكون الدينى، وصهرت التنوع الدينى، مسلمين، مسيحيين، يهودا، فى بوتقة الوطنية المصرية الجديدة، فتعانقت الأديانُ الثلاثة، والتقت الديانتان الكبيرتان، الإسلامُ والمسيحية، حيث رفرف الهلال يعانق الصليب فى هدوء ومحبة وثقة.
لم يحدث - فى غير ثورة 1919م - أن هبت هذه الروح العظيمة التى أنجبت حشوداً من المصريين العباقرة، فى الفن، فى الموسيقى، فى الأدب، فى القانون، فى العلوم، فى الفقه، فى الطب، فى الصحافة. إذا كانت كل ثورة تخلق نخبتها، كما أن كل نخبة تخلق ثورتها، فإن:
ثورة 1919م تبقى - رغم كل المآخذ عليها - أعظم الثورات المصرية.
ونخبتُها - فى كل المجالات - تبقى هى النخبة الأكثر تعليماً وتهذيباً وتدريباً والتزاماً ونزاهة يد، فهى الأقل حماقةً وجهلاً، والأقل اندفاعاً وتهوراً، والأقل فساداً وانحرافاً.
والحديثُ مُستأنفٌ.