بعد يوليو 52 رأى النظام الجديد أن الطربوش لم يعد يعبر عن مصر الجديدة، فتم الاستغناء عنه بعد أن ظل زمناً يزين رؤوس الباشوات والبكوات والأفندية والطلبة. والحقيقة أن الناس لم تُظهر حزناً يُذكر، وهى تودع الطربوش وتبدأ عهداً جديداً يسير الناس فيه فى الشارع ورؤوسهم مكشوفة.. وقد انتشرت فى ذلك الوقت نكتة عن ابن البلد الذى شعر بخيبة أمل بعد أن ظل يدخر لشراء الطربوش، ثم بعد أن حصل عليه فوجئ بالأفندية الذين أراد التشبه بهم يخلعونه ويستغنون عنه!
تزامن مع هذا قرار إلغاء الألقاب الذى تم بموجبه سحب البكوية والباشوية من الذين حصلوا عليها من الملك المخلوع، وبعضهم حازها مجاملةً أو بفلوسه. كذلك اندثر لقب أفندى وهو على أى الأحوال لم يكن لقباً ذا شأن، لكن كان ينادى به الحاصلون على الابتدائية فما فوق. كان إلغاء الألقاب أشد ألماً بكثير من إلغاء الطربوش، لأن الأخير كان العامة يتشاركون فى لبسه مع الأكابر، على العكس من الألقاب التى كان يختص بها الأغنياء وذوو النفوذ. المهم أنه تم تعميم لقب جديد يسرى على أولاد الذوات كما يسرى على الحرافيش وهو لقب «سيد». والذين كانوا بالمدرسة فى الخمسينات والستينات يذكرون أن الكراسات المدرسية كان غلافها الخلفى مزيناً بسلسلة من النصائح والإرشادات أهمها: كلنا سيد فى ظل الجمهورية. لكن اللقب الجديد لم يحظ بالقبول من الناس رغم ترحيب الأغلبية الساحقة من المصريين بقرار إلغاء الألقاب الذى عدّوه خطوة ضرورية نحو إشاعة المساواة والعدل بين الناس.. وبدون قرار رسمى توافق الناس على لقب آخر استراحوا إليه ورأوه أكثر ملاءمة هو لقب «أستاذ». صحيح أن الكلمة ذات أصل فارسى لكن المصريين جعلوا منها لقباً ينادَى به المتعلمون بعد أن كانت الكلمة فى السابق تقال للمدرسين ومن فى حكمهم. استمر لقب أستاذ فى الشارع المصرى زمناً كان الناس فيه يملؤهم الأمل فى عهد جديد سنقيم فيه صناعة كبرى وتماثيل رخاما على الترعة وأوبرا.. غير أن ما حدث بعد ذلك بدد الحلم عندما كسرتنا هزيمة 67 واستفحل القهر والاستبداد اللذان قيل فى تبريرهما إنهما لأجل حماية مكاسب الثورة!.. ذهبت المكاسب وبقيت الديكتاتورية، ومن ثم عاد الناس بدون اتفاق إلى استعمال الألقاب القديمة واندثر لقب سيد إلى الأبد كما انزوى لقب أستاذ وما عاد يصلح لوصف رجال الأعمال والأثرياء الجدد، كما رفضه أيضاً ضباط الشرطة والقضاة والدبلوماسيون الذين رأوا أنفسهم باشوات وبكوات، وما عاد يصلح أن تنادى أحد هؤلاء بلقب أستاذ إلا إذا أردت أن تبوء بغضبه!. والمدهش أن وزارة الخارجية ينقسم العاملون بها إلى دبلوماسيين وإداريين، ورغم أن الطرفين من ذوى المؤهلات العليا إلا أن الدبلوماسيين هم البكوات بينما الإداريون هم مجرد أساتذة!. ومن المفارقات الجديرة بالتأمل أن اللقب المرفوض من السادة الأكابر وجد من يرثه ويتلقفه فرحاً، فأصبح البقالون وتجار الأدوات الصحية وسائر أصحاب المحلات وبعض الصنايعية أساتذة بعد أن كانوا فى السابق أشياء أخرى تتراوح ما بين عم فلان إلى حاج فلان أو أسطى فلان، فهنيئاً لهم باللقب الذى لفظه أصحابه ولم يعد يقبل به سوى المدرسين بعد أن أصبح أغلبهم من حيث الهندام والهيئة على شاكلة أستاذ حمام!