لكل شعب تاريخه الذى تتداخل فيه الأساطير بالحقائق لكن تظل فى النهاية حكايات الشعوب التى يتناقلونها على مدار أجيال على سبيل الفخر، إلا فى حالة إسرائيل فالأساطير تتداخل مع الدين والمصالح السياسية لتجعلها أكبر حجة للمطالبة بالتواجد فى المنطقة وإبادة الشعب الفلسطينى. فى هذا الإطار صدرت مؤخرا الطبعة الإنجليزية من كتاب «اختراع الشعب اليهودى» Invention of the Jewish People، للمؤلف الإسرائيلى «شلومو ساند» الذى استمر متربعا على قائمة المبيعات فى إسرائيل لمدة 19 أسبوعاً بشكل متواصل، ومنذ صدور الكتاب أثار ردود أفعال غاضبة فى إسرائيل بسبب نسفه فكرة وحدة عرق الشعب اليهودى وانتمائه للأراضى الفلسطينية وبالتالى عدم صحة حقه المزعوم فى إقامة الدولة الإسرائيلية.
يروى «شلومو» فى كتابه أنه تربى كيهودى إسرائيلى على الأفكار المتعارف عليها بين العلماء والمؤرخين من انتماء معظم الجماعات اليهودية للساميين، وأنهم نشأوا جميعاً فى منطقة الشرق الأوسط وتحديداً الأراضى الفلسطينية حتى أخرجهم منها الرومان عام 70 قبل الميلاد، إلا أن شلومو أثناء أبحاثه لإثبات مزيد من الحقائق حول هذه المعلومات وجد نفسه أمام طريق آخر ينسف تماماً فكرة الأصول العرقية المشتركة لكل يهود العالم، والتى يحاول علماء الجينات إثباتها بكل الطرق، وطرح شلومو فى كتابه «اختراع الشعب اليهودى» ما توصل إليه بأن اليهود الموجودين حالياً هم مزيج من الأصول العرقية المختلفة، لا يجمعهم إلا الديانة اليهودية التى استطاعات استقطاب السكان المحليين فى جنوب روسيا واستقروا فى المنطقة وأسسوا إمبراطورية الخزر فى القرنين الثالث عشر والرابع عشر قبل الميلاد وهم اليهود الذين أصبحوا بعد ذلك نواة اليهود الأشكيناز «الأوروبيين».
ويدلل المؤلف على صحة روايته برفض المؤرخين الإسرائيليين دراسة تاريخ إمبراطورية الخزر حتى لا يجدوا أنفسهم فى مواجهة دلالات تاريخية تنزع شرعية قيام دولة إسرائيل.
لم يكتف «شلومو» بالتشكيك فى فكرة وحدة أصل الشعب اليهودى بل شكك أيضاً فى قصة تدمير هيكل سليمان، وأضاف أن الرومان لم يطردوا اليهود بل سمحوا لهم بالبقاء فى البلاد كإحدى الجماعات الدينية حتى بدأت الفتوحات الإسلامية فى المنطقة ودخل كثير من اليهود فى الدين الإسلامى واندمجوا مع العرب، وبذلك يمكن القول إن أجداد الفلسطينيين الموجودين الآن كانوا من اليهود.
أما فكرة النفى فهى مجرد أسطورة روج لها المسيحيون الأوائل باعتبار أن الرب عاقب اليهود لأنهم لم يصدقوا دعوة الإيمان به، وذلك حتى يقتنعوا بضرورة الدخول فى الديانة المسيحية الوليدة وينجوا من شتات آخر. ويفسر المؤرخ شلومو ساند ظهور مفهوم وحدة عرق الشعب اليهودى بأنه ظهر فى القرن التاسع عشر فى أوروبا على يد مجموعة من المثقفين اليهود فى ألمانيا ممن تأثروا بفكرة القومية الألمانية، وبدأوا فى اختراع ورسم اليهودية باعتبارها تاريخ أمة ومملكة، ويعد هنريش جرينس أبرز هؤلاء المؤرخين ويمكن وصفه بمهندس الهوية اليهودية.
كان كتاب «اختراع الشعب اليهودى» بمثابة قنبلة انفجرت داخل إسرائيل، لأنه تعرض لواحد من أهم التابوهات فى الدولة اليهودية وأصبح حديث الساعة سواء داخل إسرائيل أو فى أوروبا وتم وضع اسم الكاتب شلومو ساند على رأس قائمة حركة المؤرخين الجدد الذين يسعون لهدم الأساطير الإسرائيلية مثل أفى شاليم بل إنه وصف بأنه أكثرهم تشدداً بسبب انتقاده العنصرية الإسرائيلية فى معاملة العرب وتأكيده أن الحل الوحيد لإنهاء حالة الصراع مع الفلسطينيين هو إلغاء الدولة اليهودية. واعتبر توم سيجيف، وهو واحد من أشهر الصحفيين الإسرائيليين، أن كتاب شلومو ملىء بالتحدى، وسيصاب الإسرائيليون بالذهول عند قراءته لأول مرة بسبب كم الحقائق التاريخية والرؤى التى يطرحها، فى حين صرح إسرائيل بارتال، عميد الجامعة العبرية لصحيفة هاآرتس بأن الافكار التى طرحها شلومو فى كتابه لا أساس لها من الصحة، فالمؤرخون الإسرائيليون ليسوا جهلة فى حين أن شلومو أستاذ فى تاريخ فرنسا وليس إسرائيل. وتعود أصول الكاتب والمؤرخ شلومو ساند إلى بولندا وانتقل مع أسرته إلى يافا عام 1948، وعاش بها حتى حصل على بكالوريوس التاريخ من جامعة تل أبيب، ثم سافر إلى فرنسا لإكمال دراسته وعمل أستاذاً فى عدد من جامعات أوروبا حتى عاد مؤخراً إلى إسرائيل.