احتفلت مدينة كربلاء العراقية منذ أيام قليلة بذكرى «عاشوراء»، وأسطورة مقتل الإمام الحسين، وشقت الجيوب ولطمت الخدود، فى مسيرات حاشدة، بدأت بالبكاء والعويل، وانتهت بنزيف الدماء من الرؤوس والأجساد لتكفر – حسبهم - عن ذنبهم فى حق آل بيت النبى «صلى الله عليه وسلم»، تلك الأسطورة الدينية التى حولتها على الجانب الآخر جماعات الشيعة فى إيران والمعارضة إلى مظاهرة حاشدة أدت إلى سقوط 4 قتلى وعشرات الجرحى فى مواجهة شرسة بين عشرات الآلاف من المحتفلين وقوات الأمن، ورددت فيها شعارات سياسية (الموت للديكتاتور – إنه شهر الدم وسيسقط الباسيج.. يا حسين مير حسين)، وأطلق عليه فى الإعلام «عاشوراء المعارضة» فى إيران.
وهكذا تحول الدينى والأسطورى إلى أيديولوجيا، ونقرؤها بوضوح فى ثنايا كتاب «كربلاء بين الأسطورة والتاريخ.. دراسة فى الوعى الشعبى الإيرانى»، الصادر مؤخراً عن دار الرؤية للنشر لمؤلفه الباحث المتخصص فى الدراسات الإيرانية الدكتور «أحمد لاشين»، ويقع فى 550 صفحة.
يقول الكاتب إن دراسة الأدب الشعبى الإيرانى، تعد منطلقاً مركزيا إلى فهم طبيعة الشخصية الإيرانية بكل ما تحمله من خصوصية ناتجة عن امتزاج التاريخ بالتراث الشعبى الإيرانى القديم فى العقلية الجمعية لهذا المجتمع، والنموذج الأوضح – حسب المؤلف – هو فكرة كربلاء «موضوع الدراسة» فمقتل «الحسين بن على» يعد حدثاً مفصلياً عميقاً فى الفكر والتاريخ الإسلامى بشقيه السنى والشيعى، غير أنه يبدو أكثر وضوحاً فى فكر وتاريخ التشيع، خاصة لدى اعتناق إيران رسمياً المذهب الشيعى الاثناعشرى الأمر الذى خلق حالة من التضافر بين تأثير هذا الحدث وخصوصية التراث والأدب الشعبى الإيرانى.
وبعد عدة تساؤلات يطرحها الكاتب عن مدى استفادة الحكاية الحسينية من النصوص الأسطورية الإيرانية القديمة وهل النص التاريخى لمدينة كربلاء يتسم بالحياد أم أنه يعتمد على النماذج الشخصية الثابتة من تضخيم لشخصية الحسين على حساب بقية عناصر التاريخ وإشكالياته؟ يتوصل لاشين إلى أنه من الممكن إطلاق اصطلاح «أساطير ما بعد الإسلام» على تلك النصوص الحكائية الشعبية التى تتداخل مع المعلومات التاريخية.
وكما هو معروف فإن الأساطير لا تأتى من العدم، خاصة الأساطير السياسية الكبرى وتستند فى جوهرها إلى واقعة أو نص دينى، لا يلبث أن يحوله معتنقوه إلى أيديولوجيا متكاملة، كما يشرح الكاتب فى فصله الأول «البنية الأسطورية لكربلاء فى مصادرها التاريخية» الجدل الدائر فى الخطاب بين السنة والشيعة حول مقتل الحسين، إذ يرى أن «كربلاء» تجسيد للعديد من الآراء والنماذج، وتعد مفصلا تاريخيا مهما فى إعادة التعريف للعديد من الصيغ التى أصبحت – حسبه – تأسيسا لدوائر أيديولوجية «عقائدية، منهجية» مغلقة هدفها إعادة إنتاج لكل ما يجعلها أكثر رسوخاً وانتشاراً، ويقول: «كربلاء هى الحادثة التى صنعت أهم الأحداث السياسية فى التاريخ الإسلامى، وخلقت البطل الدينى الشعبى فى الوجدان الإسلامى، فالحسين بن على شخصية لها ثلاثة وجوه (التاريخى، والشعبى الملحمى، والمذهبى الدينى)، بشكل ممتزج يستحيل الفصل بينها».
وبحسب الكاتب فإن ما يدور من جدل حول رأس «الإمام الحسين» الذى يؤكد البعض عودته لكربلاء ليدفن مع الجسد، ويرى آخرون أنه وصل القاهرة فى العهد الفاطمى، وروايات أخرى أنه بالمدينة أو استقر فى دمشق، ولم يحسم تاريخياً مكان رأس الحسين، إلا أنه تحول إلى رمز لكل مقاومة تاريخية، بل كانت كربلاء ذاتها وما نتج عنها هى بداية النمو السياسى لشيعة آل البيت، والتطور الفلسفى والفكرى للمذهب، وبداية ظهور فكرة الإمامة وفكرة الرجعة للأئمة بعد عودة المهدى المنتظر.
لم يكتف المذهب الشيعى بنعت «الحسين» بصفة المهدى المنتظر، بل عقدوا مقارنات بينه وبين العناصر المقدسة الأسطورية مثل تلك الموجودة – حسب المؤلف – فى كتاب «بحار الأنوار» ونقلت لإحدى الروايات الحكائية، وهى مقارنة ما بين السماء والحسين – فكلاهما معدن للفيض الإلهى، فالسماء مكان لقبول الدعاء والصعود، والحسين اسمه يتسبب فى قبول الدعاء، المظلوم تقبل دعوته فى السماء. وكذلك الحسين لأنه ظلم وقتل، وفى السماء يكون البراق الذى ركبه نبى الإسلام فى رحلة الإسراء والمعراج، وفى كربلاء يوجد ذو الجناح – حصان الحسين - وفى السماء معراج الأنبياء، وكربلاء معراج الملائكة، السماء مكان الرزق المادى والحسين أساس الرزق الروحى، فى السماء يوجد عيسى، وفى كربلاء مكان ميلاده، فى السماء يوجد القمر وكربلاء مكان قمر بنى هاشم.
تلك القداسة التى تربط بين كربلاء والسماء ويستمد من خلالها كل منهما قداسته من الآخر، وارتباط الاثنين بالسماء بكل دلالتها ورمزها الدينى والأسطورى يحتاج إلى قداسة الكلمات لكى تظهر الفكرة السياسية وإعادة إنتاج أسطورة كل عام، فالموضوع أصل الفكرة ومبدؤها، حتى على مستوى اللغة، فإن ما يعطى الكلمات قوتها، ويجعلها قادرة على حفظ النظام أو خرقه، هو الإيمان بمشروعية تلك الكلمات ومن ينطق بها، تلك الكلمات التى يزعم الشيعة فيها الربط بين مقتل الحسين والنص القرآنى الكريم لإضفاء نوع من الشرعية لهذا النظام وتلك الاحتفاليات، فمثلا قوله تعالى فى سورة الصافات: «وفديناه بذبح عظيم» نقل عن الإمام الرضا – حسب الكتاب – أن المقصود بالذبح العظيم فى هذه الآية الكريمة هو الحسين، وقوله تعالى: «ياأيتها النفس المطمئنة، ارجعى إلى ربك راضية مرضية» فعن الإمام الصادق أن تلك هى سورة الإمام الحسين، وورد أن من أسباب نزولها هو الحسين، لأن الله ينعته بالنفس المطمئنة وهذه رؤية تنبوئية بما سيحدث له، يضيفها النص الإلهى من الرؤية الشيعية على شخصية الحسين.
حاجة الجماعات وأفرادها إلى رموز تؤكد وجودهم فى عيون الآخرين مثل رجل دولة أو مؤسسة دينية، ذلك الأمر الذى دفع – حسب لاشين – الشيعة إلى اعتناق فكرة الإمامة التى تعتبر تجليا واضحا للدمج بين الهوية الاجتماعية المتمثلة فى الزعامة السياسية والهوية الدينية، علاوة على أن اختيار الرمز أو الزعيم فى الرؤية الشيعية، قائم على تقديس الشخصيات التاريخية بما يمثلونه من قيمة تاريخية فعلية، ولما تحول الحسين إلى رمز احتوى بداخله كل مشاعر الاضطهاد من وجهة نظر الشيعة، فبحسب الكتاب، تم تضخيم هذا الرمز ليتحول إلى قيمة تعبر عن الذات الجمعية لتك الجماعة وتصبح مصب كل أحلامها وطموحاتها.
وبحسب الكتاب فإن هناك علاقة وثيقة بين الطقوس الدينية القديمة فى إيران من جهة، والعادات واستمرارها فى النفس الشيعية من جهة أخرى، فقد أثرت الملاحم والأساطير القومية بشكل أو بآخر على العزاء الحسينى، ومن هنا يتكون ذلك التشابه بين مأساة الحسين فى كربلاء، ومأساة «سياوش» فى إيران القديمة، اعتمادا على أساس اجتماعى ونفسى واحد تقريباً، ويضيف: «فى عمق التراث الدينى الإيرانى، (الشاهنامة) ليست سوى إعادة صياغة لهذه المعتقدات فى العهد الدينى، فالأساطير والحماسة فى إيران غير منفصلتين... والأشياء المقدسة من خلود وقوة، مجسدة فى شخصيات الأبطال، أى إبدال مفهوم الألوهية بالبطولة».
كذلك تتم فى إيران نفس الطقوس فيما يخص بطل فارس القديم (سياوش بن كيكاوس) الذى قتل غدراً على يد «كرسيوز» وتم فصل جسده عن رأسه، وإقامة الأناشيد والضرب بالجنازير والنواح عليهم، واستمرت تلك الاحتفالية 3 آلاف سنة فى إيران القديمة، وهكذا – حسب لاشين - نلاحظ أن آلية الاحتفال بعودة الإمام المقتول الذى سيحارب مع المهدى المنتظر لتخليص العباد وتحرير الأرض، لا تختلف كثيرا عن آلية الاحتفال بالحسين، وإن كانت الرغبة فى العودة ليست واضحاً بشكل كلى، لكن هناك حكاية تنص على أن الحسين سوف يعود ليحارب مع المهدى المنتظر، فهذا الارتباط بين الحسين والمهدى يجعل من الأول رمزا قابلا للاستدعاء والاستعادة على غرار المهدى.