عبدالناصر أخطأ أمنياً ومخابراتياً في هذا المجال، فهو لم يعمل بنصائح «المخابرات» في هذا الوقت، بالتكتم على مشروع بناء برنامج الصواريخ المصرى، ولكنه زايد على «المشروع» وكرر ولمرات عديدة أن مصر لديها صواريخ ستصل إلى قلب إسرائيل.
الثعلب يكشف خبايا عمليات عميل الموساد الذى استأجر فيلا أسمهان واخترق سلاح الفرسان
يرى رفعت جبريل أن جهوده في «مكافحة التجسس».. في عقد الستينيات، كانت الأهم في مسيرته الشخصية ومسيرة عمل المخابرات العامة ويقول «كان بلدنا مستهدفاً إلى حد كبير من الإسرائيليين، ومن الأمريكيين ومن اليهود في جميع أنحاء العالم.. حتى بعض الدول الأوروبية الصديقة كانت تتجسس على مصر لصالح إسرائيل.. وأحياناً تتم هذه العمليات بمعرفة القيادات السياسية العليا لهذه البلاد، وأحياناً عن طريق قيادات أجهزة المخابرات التي نجح «الموساد» في استقطاب عدد منهم، أو كان الأمر يتم وفقاً لنظام «تبادل المعلومات» بين الأجهزة.
في هذه الحلقة يركز «الثعلب» على واحدة من أهم العمليات على الإطلاق وهى الخاصة بإيقاعه وفريقه بضابط المخابرات الإسرائيلى «فولجانج لوتز» الذي كان مسؤولاً عن تفخيخ الرسائل الموجهة لعلماء الصواريخ الألمان الذين كانوا يعملون مع عبدالناصر.
جبريل: رسائله المفخخة عثرت عليها وسط علب الصابون
تعلمت من الجاسوس «فولجانج» الكثير
وهو أول من سمانى «الثعلب»
وعبدالناصر استبدله بـ3 آلاف أسير
صلاح نصر له دور كبير.. والجهاز تمتع في عهده بحماية تامة
■ أعود لبداياتك.. مرة أخرى في الجهاز.
- على مدار تاريخ مصر، لم يكن هناك ما يعرف بالجاسوسية بمفهومها العصرى، ولكن بعد حرب 1956 واتجاه الغرب لاحتكار السلاح، وظهور مدارس التجسس الأمريكية والإسرائيلية، نشط العمل في المجال إلى أبعد مدى، وكانت الجاسوسية الإسرائيلية تحديداً نشطة جدا حتى إنها كانت غطاء للنشاط الأمريكى، فكانت أمريكا تريد أن تظل علاقتها بالدول العربية طبيعية، وبالتالى كانت إسرائيل تقوم بذلك على اعتبار أن صورتها مهزوزة فعلياً، فكانت الخبرة والممارسة موجودتين لديها، وكان عندى الأدلة على أن إسرائيل كانت تعمل مع أمريكا في كل العمليات التي رصدناها سواء في مصر أو في العالم العربى كله.
■ وكيف علمت ذلك؟
- من خلال عملائى بينهم.
■ وهل كان لديك عملاء بينهم؟
- بالطبع، أفضل العمليات أن تعرف وتجيد كيفية التعامل مع «العميل المزدوج»، أو كما نسميه «Double agent» وكنت أجيد ذلك تماما ولى مؤلفات عليها وبعضها نشر في الصحافة، حيث كنت أقوم بعمل مؤتمر صحفى كل يوم جمعة تقريباً عن عمليات للأمن القومى والمخابرات.
■ إذن كنت تكشف عن عملية كل أسبوع؟
- بالفعل، وكان المؤتمر حسب قوة القضية التي تم كشفها والقبض على عناصرها، وسألت أحد الخبراء الأمريكيين عن كيفية تقييمه للضابط الناجح في مقاومة الجاسوسية، فقال: لو كشف قضية واحدة يكون ناجحاً، ولو كشف قضيتين يكون «سوبر» وكنت لا أريد أن أعرف منه أكثر من ذلك.
■ ومتى كانت البداية الحقيقية أو ذروة فترة الجاسوسية؟
- ابتداء ً من عام 1958 كانت أول قضية توليتها لعميل يدعى فؤاد محرم على، وكان مصرياً من أم سويسرية.. ولم يكمل تعليمه، وخرج في السنة النهائية من كلية الطيران وعمل في مجال الاتصالات، وكان له وضع خاص، حيث تم تجنيده في الخرطوم وأسمرة، واستطاع من قام بتجنيده من جهاز المخابرات الإسرائيلى أن يعمل له «غسيل مخ» وللحق فقد كان الضابط فائق الذكاء، حتى جعل محرم يقتنع تماما بالمهمة التي يقوم بها، حيث كانت قناعته الشخصية أنه يعمل لصالح مصر عن طريق هذه المنظمة، والتى كان لا يعلم أنها إسرائيلية، وكانت حجة المنظمة له أنهم يدافعون عن مصر ويكافحون الشيوعية بها، وأقنعوه بأنه كلما جاء بمعلومات أكثر استطاعوا مكافحة الشيوعية بشكل أسرع.
■ وكيف تمت محاكمته؟
- عن طريق محكمة أمن الدولة، كان يتولاها المستشار البهنساوى.. ووقتها قال فؤاد في المحكمة «لو أفرجتوا عنى سأعمل مع هذه المنظمة مرة أخرى، لأننى شديد الوطنية وأعمل لصالح مصر، وأخشى من وقوعها في براثن الشيوعية».. وللعلم صفوت الشريف عمل ضمن فريقى في هذه القضية.. وكان ضابطاً متميزاً.. وقدمت تقريراً بهذا المعنى لقيادة الجهاز.
■ وما الحكم الصادر ضده؟
- الإعدام شنقاً.
■ وهل كان من المسموح لكم حضور المحاكمات وقول شهادتكم؟
- لا، وكانت هذه أول قضية من هذا النوع في مصر.
القضية الوحيدة التي حضرت فيها للمحكمة كانت محاكمة صلاح نصر، ومجموعته بعد هزيمة يونيو، وترافعت عن الجهاز لمدة 3 ساعات كاملة، ولكن طلب أن تكون الجلسة سرية، ووقتها قلت إن الجهاز ليس ملكاً لأحد، وإنما ملك لمصر بأكملها، واعترضت على مقولة جمال عبدالناصر بعد 67، والقبض على صلاح نصر بأن «دولة المخابرات انتهت»، فهذه الكلمة تعنى ضعف الجهاز.
«المصرى اليوم» تنشر أول صورة لأخطر جاسوس إسرائيلى أثناء التحقيق معه بمبنى المخابرات
■ ولكن عبدالناصر يبدو أنه كان يقصد تحكم المخابرات في الشارع، وقد يكون المصطلح «خانه»؟
- نعم ولكن كلمة «انتهت» تعنى فشل الجهاز، وكنت أرفض أن تأتى من ضمن «الهفوات» كلمة كهذه، لأنها قد تهدم جهازاً بأكمله.
■ وهل كان السادات أذكى في التعامل مع جهاز المخابرات؟
- السادات كان شخصية عبقرية.
■ أقصد في الأمن القومى وليس السياسة الداخلية؟
- في عهد السادات طلب منا أن ننتشر بين مرسى مطروح وأسوان كأمن قومى، حتى لا تخترقنا أجهزة المخابرات الأخرى وطلب منا أن نترك المكاتب.
■ أشعر من حديثك أنك متحيز لصلاح نصر ثم السادات من بعده؟
- صلاح نصر كان من أعظم رجال المخابرات.
■ كيف؟
- كل ما قيل عنه كذب وافتراء، وكل ما أشيع عنه جاء في وقت لم يستطع الرد عليه، حيث كان في المحكمة والجميع من حوله كان يتملق النظام ضده.
■ ومتى بدأت علاقتك به؟
- أواخر عام 1957 وعملت معه لمدة 10 سنوات كاملة.
■ وهل عرفته وقت الثورة؟
- أنا اشتركت في يوم الثورة وكان صلاح نصر قائد الكتيبة 13 في الثورة، واستدعيت لأننى كنت مسؤولاً عن فرق مخابرات حربية.
■ ومن عرض عليك الانضمام للضباط الأحرار؟
- اليوزباشى خالد فوزى، الذي استدعانى في مكتبه.
■ أريد أن أعرف ملابسات أول عملية قمت بها؟
- أهم مصدر تستقى منه معلوماتك يكون من ضباط جيش وطنى، وهو ما حدث مع فؤاد محرم الذي أحضرته من الخرطوم، فمثلا لو جاء إليك عميل مدرب ويعلم الكثير من الأشياء تستطيع أن تستجوبه وتأخذ منه تكنيك العدو، ونقاط ضعفه حتى تستطيع بعد ذلك أن تصطاد من يماثله، فالمفروض أن كل من يعمل في هذا المجال تكون لديه مدرسة بهذا الشكل.. وهناك أجهزة مخابرات لا تستطيع عمل ذلك مع ضباط الجيش.
■ وكيف تستقى المعلومات من العميل؟
- هو لا يعطينى.. أنا آخذها منه من حيث لا يدرى.
■ كان هناك عميل لصالح إسرائيل ومدرب من قبلهم.. كيف تحصل منه على المعلومات؟
- هو يريد أن يأتى إلى، فهو يأخذ منهم وأنا أترك له هذا المجال، ولقد نجحت في عمليات كثيرة من هذا النوع، وكانت إسرائيل تعتبرها ضربات قاضية لها، ونجحت أيضا في عملية كانت تخطط لاغتيالى، ولكنى كشفتها من بدايتها، وتماشيت معهم، وبدلا من أن تصطادنى إسرائيل في بيروت استطعت اصطياد عملائها في مصر.
إسرائيل حاولت اصطيادى فى بيروت لكنى أوقعت بجواسيسهم فى القاهرة
■ ومن كشف العميل فؤاد محرم؟
- لم يكن فردا واحداً، كنت أدربهم على كيفية الحصول على المعلومات التي أريدها، ذلك من خلال معرفتى لأسلوب المخابرات الإسرائيلية في التعامل والأماكن التي يرتادونها.
■ ما الدول العربية التي عملت بها في عمليات من هذا النوع؟
- هناك سوريا والأردن والعراق.
■ وماذا كانت مهمتك في سوريا؟
- عملت في مجال مكافحة التجسس لصالح سوريا.
■ والعراق؟
- طلبت الحكومة العراقية من مصر خبيراً للتفاهم مع شبكة جاسوسية إسرائيلية تم القبض عليها هناك، ولم يستطيعوا التعامل معها، وكان ذلك في بداية الستينيات، وقمت باستجوابهم.
■ وهل هناك عمليات قمت بها في الدول العربية بعيداً عن الحكومات؟
- لا.
■ وما طبيعة عملك في الأردن؟
- كانت كلها عمليات مساعدة للفلسطينيين.
■ وما طبيعة هذه المساعدات؟
- شكل الفلسطينيون في الأردن أيام الملك حسين شبه دولة داخل المملكة، وكانت لهم أجهزة شرطة خاصة بهم، يقيمون نقاط تفتيش على الطريق، وكانت لمصر مصالح استراتيجية هناك وكانت أحياناً تتقاطع مع مصالح السلطات الأردنية.
■ في هذه الفترة كانت مصر تدعم الاختراق الفلسطينى للأردن.. هل كنت جزءاً من هذا الاختراق؟
- لم أتدخل سياسياً في أي موضوع، وكانت مهمتى هي فقط كل ما يمثل مقاومة إسرائيل.
■ هل تزاملت مع اللواء عبدالسلام المحجوب في تلك الفترة؟
- نعم، وكنت في الأردن في إحدى الرحلات في قضية فلسطينية جاسوسية، وكان موجوداً في الجهاز وقتها.
■ وماذا كانت طبيعة علاقتكما؟
- كانت رتبتى أعلى في هذه الفترة، وكان هو في إحدى هيئات الجهاز المهمة، وكان زميلاً محترماً من الجيل الذهبى لـ«المخابرات».
■ ألم تشترك في عملية خطف ياسر عرفات في هذه الفترة وإعادته لمصر بعد أزمة «أيلول الأسود» عام 1970؟
- لم أشترك.. العملية كانت أقرب إلى العمليات السياسية منها إلى مقاومة الجاسوسية.. فلم يكن هذا عملى.
■ قلت إن مصر لم تعرف المخابرات بشكل علمى إلا مع صلاح نصر فماذا فعل للجهاز؟
- احتكاكى كضابط صغير مع صلاح نصر لم يكن احتكاكاً كبيراً، ولكن كانت هناك حماية تامة للجهاز في أيامه وكنا نعمل 24 ساعة ولم يكن هناك إجازات، حتى يوم الجمعة كنا نعمل في الجهاز وكانت لدينا في ذلك الوقت قضايا وعمليات كثيرة نعمل فيها، ووقتها ألقيت القبض على أكبر شبكة جاسوسية في شارع الهرم.
[quote:4]
■ وما طبيعة هذه القضية؟
- قائد الشبكة كان اسمه فولجانج لوتز.. واشتهر باسم «جاسوس الشمبانيا» قدم لمصر بجواز سفر ألمانى، ولكننا اكتشفنا أنه يعمل في الموساد.
■ أشعر من حديثك وكأنك كنت تلقى القبض على مجرم عادى وأن العملية سهلة، فكيف كانت العملية إذن؟
- لأهمية مصر وأهمية الدور الذي كانت تقوم به، لم يقم الموساد بتجنيد أحد عناصره في هذه العملية، ولكن أرسل أحد ضباطه المتميزين.. وبالفعل نجح لفترة.. وقدم نفسه للمجتمع على أنه رجل ألمانى مليونير يهوى الخيول، وقام بتأجير فيلا «أسمهان» في شارع الهرم ومزرعة خاصة للخيول، وكان هناك أيضاً من ضمن أصدقائه المترددين عليه ضباط من سلاح الفرسان، لدرجة أنه عندما كان يسافر لإحدى رحلاته كان يضع خيوله في سيارات سلاح الفرسان وكان مطمئناً أن له أصدقاء من الضباط.. وبالتالى لن يكتشفه أحد.
■ إذن كيف قمت باكتشافه؟
- وضعت خطة لمدة 3 شهور كاملة، ثم اخترقت الفيلا، ويوم القبض عليه كان عائداً من مرسى مطروح، وكان عند يوسف غراب، محافظ مطروح آنذاك، الذي كان من بين أصدقائه.
■ وهل اعترفت به إسرائيل؟
- نعم، وقام عبدالناصر بالإفراج عنه بعد هزيمة يونيو مقابل الإفراج عن الضباط المصريين الأسرى في حرب 67، بالفعل إسرائيل تسلمته مقابل الإفراج عن جميع الضباط المصريين، وظهر هذا الجاسوس في التليفزيون الإسرائيلى، وحكى عن كيفية إلقاء القبض عليه في مصر، وأكد أنه لم يخطئ خطأ واحداً، وقال إن الخطأ في قيادة الموساد الإسرائيلى نفسه، وقد قامت إسرائيل بنشر كتاب عن هذه العملية.
■ تلاحظ أن إسرائيل تقوم بنشر كتب عن عمليات الجاسوسية، في الوقت الذي لا نقوم فيه نحن بذلك، فما السبب؟
- في رأيى الخاص.. أن العمليات التي انتهت يجوز نشرها.
■ أعود لهذه القضية التي تسميها أنت أخطر قضايا التجسس في الخمسينيات وهى قضية «جاسوس الشمبانيا» ونريد توثيقها بالتفصيل؟
- فولجانج كان ألمانياً يهودياً.. ودخل مصر على أنه ألمانى مسيحى، وكان جاسوساً محترفاً منذ الحرب العالمية الثانية، وعندما استقر به المقام في فيلا أسمهان في الهرم.. وبمهارة يحسد عليها، استطاع النفاذ في مجتمع القاهرة، واشترك في نادى الجزيرة، واشترى الكثير من الخيول الأصيلة، ودخل في معاملات تجارية مع عدد من كبار رجال الدولة، وكل خميس كان يقيم حفلاً ساهراً وغنياً في فيلته.
كانت مهمة الرجل الأساسية والوحيدة هي استهداف العلماء الأجانب، وخاصة الألمان الذين يعملون في مجال الصواريخ، وذلك بالقتل أو الترويع، وتصوير أن عبدالناصر لا يستطيع حمايتهم، وبصراحة فإن عبدالناصر أخطأ أمنياً ومخابراتياً في هذا المجال، فهو لم يعمل بنصائح «المخابرات» في هذا الوقت، بالتكتم على مشروع بناء برنامج الصواريخ المصرى، ولكنه زايد على «المشروع» وكرر ولمرات عديدة أن مصر لديها صواريخ ستصل إلى قلب إسرائيل.. وهو إعلان من وجهة نظرى الفنية غير موفق على الإطلاق.. لسببين، الأول أن البرنامج كان في بدايته في هذا التوقيت، والثانى أن العلماء القائمين عليه كانوا أجانب ولم يكونوا مواطنين مصريين، ولذلك فان حملة الترويع الإسرائيلية قد نجحت في «تطفيشهم» من مصر.
«أنا أحب عبدالناصر إلى حد كبير، فله الفضل في أمور عديدة ويصعب حصرها، ولكنه في هذا المجال، ومع الفارق الزمنى، بدا عبدالناصر وكأنه صدام حسين الذي هدد إسرائيل بصواريخ لا يمكن تسليحها إلا بالأسمنت، عبدالناصر روج لمشاريعه وقبل اكتمال بنائها بعكس السادات الذي كان ماكراً للغاية، بدليل أنه قبل بمبادرة روجرز لوقف حرب الاستنزاف من أجل إكمال بناء الصواريخ، وكنت شاهداً في هذه المرحلة على بعض الانتقادات، من غير العالمين ببواطن الأمور، لقرار السادات هذا.
■ نعود لـ«فولجانج»؟
- «الرجل.. وكذلك رجال آخرون في الموساد نجحوا في إرسال خطابات مفخخة لعدد من هؤلاء العلماء، وكانوا من ألمانيا الشرقية ولاحظنا أن الرسائل يتم إرسالها من داخل مصر وليس من خارجها.. ومات أحد المساعدين المصريين، وأصيب عالم أجنبى وسكرتيرته، وحدث هياج بين هؤلاء العلماء، مما أدى إلى فشل مشروع الصواريخ، وفى هذه الأثناء توصلت لمعلومة وهى أن «فولجانج» هذا وراءه نشاط مريب، وأنه عميل للموساد وهو من خطط لإرسال هذه الخطابات، لكننى كنت أحتاج إلى دليل دامغ، لكى يؤكد إحساسى هذا، دخلنا الفيلا ومعى فريق من المتخصصين، كان الرجل خارج القاهرة، فتشنا في كل الأماكن بشكل بوليسى دقيق ولمدة ساعتين، ولم نجد أي دليل على أنه جاسوس وكنت في قمة الغيظ، لكن شيئاً ما دفعنى في اللحظة الأخيرة لدخول غرفة المكتب.. وفيها كان كل شىء منظماً وفى مكانه، وفجأة عثرت على شىء شكله غريب.. علبة متوسطة الحجم فوق المكتب الرئيسى بالغرفة.. وعندما فتحتها عثرت على عدد من قطع الصابون بداخلها.. وبحاستى السادسة أدركت أن في الأمر شيئاً مريباً، وقد يكون في هذه العلبة ضالتنا المنشودة، وجاء خبير المتفجرات ليجرى فحصاً بسيطاً وسريعاً، ليؤكد لى بالفعل أنها «متفجرات» لم نأخذ الصابون الموجود في العلبة بل أغلقناها ونظفت المكان تماماً، وخرجنا قبل أن يعود الرجل بدقائق معدودة.
[quote:5]
بعد يومين.. حصلنا على إذن النيابة.. وألقينا القبض عليه وأتذكر أننا عندما دخلنا بيته في «الهرم» وعرف مقصدنا هددنا باللجوء إلى سفارته «الألمانية»، كما ذكرنا بمعارفه وأصدقائه من الوزراء والمحافظين.. وبهدوء طلبت منه أن يدخل معى إلى حجرة المكتب.. وببساطة مددت يدى إلى أعلى المكتب وفتحت العلبة وأخرجت الصابون.. وفى لحظات تغيرت ملامح الرجل تماماً.. وانهار وقال وبشكل مفاجئ لى ولجميع من حولى «سأعترف بكل شىء» وقام من تلقاء نفسه بإحضار اللاسلكى وباقى أدوات الاتصال بـ«الموساد» وكان أسهل جاسوس أستجوبه على الإطلاق.. والرجل كان ذكياً للغاية وعلم أننا نعرف كل شىء عنه ومن ثم فإن تعاونه معنا كان عاملاً مهماً في عدم إهانته أو تعرضه للبهدلة، والأمر الثانى، أن الرجل كان يعلم أنه مهم للغاية للموساد وأنه غير مصرى، أي أنه سيدخل في صفقة، آجلاً أم عاجلاً، لتبادل الأسرى، والأهم أنه لن يعدم.
وقضى «فولجانج» بالفعل عدة سنوات في السجن، إلى أن جاءت هزيمة 1967، والتى انتهت بأسر آلاف الضباط والجنود المصريين.. ومع نهاية الحرب طلبت إسرائيل، عبر الصليب الأحمر، استبدال الجاسوس «فولجانج» بـ3 آلاف أسير مصرى.
وأتذكر أنه في أحد الأيام، استدعانى رئيس المخابرات وأطلعنى على خطاب من الرئيس عبدالناصر وبطلب الإسرائيليين، استبدال الجاسوس بالأسرى المصريين.. ورغم أن الخطاب كان بمثابة تأشيرة موافقة من الرئيس إلا أننى قلت لرئيس المخابرات، وفى مذكرة تفصيلية، أرى أن ترفض مصر ورئيسها هذا العرض لأكثر من سبب، أولها أن الأسرى المصريين سيعودن لمصر لأنهم ليسوا مفقودين، ولكنهم مسجلون في الصليب الأحمر، وهم عبء حقيقى على إسرائيل وأنه من الحكمة أن نطلب المزيد من الأسرى.. وكنت أرى أن إسرائيل من الممكن أن تستبدله بـ7 آلاف أسير، والسبب الأهم في نظرى أن هذا الرجل خطير جداً، والمخابرات الإسرائيلية ستنشئ له مدرسة أو معهداً لتدريب رجال المخابرات، وكنت قد جلست معه طويلاً وأعرف أنه خطير للغاية.. وأعترف أيضاً بأننى تعلمت منه الكثير.
ولكن مذكرتى، لم تصل لأحد، ووافق عبدالناصر على الصفقة، وعاد الرجل إلى تل أبيب.. وبعد شهور معدودة أنشأ المعهد، ودرب عشرات المرشحين للعمل في المخابرات.. بل إننى علمت من مصادر أنهم منحوه بيتاً ضخماً ومكتباً خاصاً.. وبعد سنوات وصلتنى حلقة من برنامج تسجيلى أجراه التليفزيون الإسرائيلى، ركز فيها على طريقة القبض عليه وقال: «أوقع بى رجل مخابرات مصرى.. لا أعلم من هو.. ولكن من مناقشاتى معه ومن طريقة إيقاعه بى تأكدت أنه أفضل رجل مخابرات رأيته».
وأضاف: لا أعرف اسمه ولكنه رجل بشعر أشهب ونظارة سوداء.. ثم قال إنه «ثعلب مصرى».
[quote:6]
■ لكن تسميتك بـ«الثعلب» جاءت بعد ذلك بنحو 5 سنوات تقريباً من خلال عملية التنصت على «الموساد»..
- بالفعل.. ولكن في المرتين جاءت تسمية «الثعلب» من داخل إسرائيل!