المكان: مسجد آل رشدان فى مدينة نصر.. الزمان: مساء الخميس 18 ديسمبر 2009.. أكثر من قاعة للمناسبات تعلو فيها أصوات المقرئين بآيات الرحمة «للمسلمين وأمواتهم».. دُرتُ دورة كاملة حول المسجد من الاتجاه المقابل لاستاد القاهرة حتى وصلت إلى القاعة المنشودة.. وجوه عديدة لا أعرف من أصحابها أحداً، لكن لوحة بيضاء فى صدر القاعة دلتنى إلى غايتى: «عزاء المغفور له بإذن الله الفريق محمد رفعت جبريل، رئيس جهاز الأمن القومى الأسبق».
سلمت على طابور قصير.. وكررت أمام كل منهم جملة واحدة: «البقاء لله». تفحّصتُ الوجوه لمعرفة أحد من عائلته من الذين التقيتهم من قبل، أو حتى الذين تحدثت معهم هاتفياً على مدى يومين لتأكيد خبر الوفاة أو معرفة إجراءات الدفن ومكانه، وما إذا كانت الجنازة عسكرية لكتابة تقرير قصير عن الراحل، نشرته «المصرى اليوم» الثلاثاء 16 ديسمبر من العام نفسه.
دخلت القاعة الكبيرة الممتلئة عن آخرها، رجال مهيبون فى بدل سوداء قاتمة، أدركت على الفور أن غالبيتهم من زملاء المرحوم أو تلامذته فى «المخابرات»، تلفتُّ يميناً ويساراً لأعثر على معارفى من أقارب «رفعت جبريل»، لكن عينى وقعت على عدد من الرموز السياسية والمخابراتية.. فى موقع بارز كان هناك محمد عبدالسلام المحجوب، وزير التنمية المحلية الأسبق.. وفى مكان آخر كان صفوت الشريف، رئيس مجلس الشورى الأسبق، والأمين العام للحزب الوطنى، والاثنان - وفقاً لحوار الفقيد معى - كانا من أعز أصدقائه فى جهاز المخابرات وله حكايات وعمليات معهما.. وزراء سابقون وقيادات رياضية، خاصة من نادى الزمالك.. وفنانون شهيرون كانوا هناك.
بعد دقائق عثرت على «أسامة جبريل» أحد أقارب «المرحوم» الذى داومت على الاتصال به لشهور عديدة، وذلك بعد جلوسى مع الفريق رفعت جبريل.. قدمت له العزاء.. وهو عرّفنى بالحاج حسن جبريل، شقيق المرحوم، كما قدمت العزاء لنجل المرحوم «طارق» ولبقية أفراد العائلة، وبينما كان الشيخ يواصل قراءته لآيات الرحمة فى القرآن، كانت ذاكرتى تعود للوراء، وإلى معرفتى بالرجل الرائع الذى قدم الكثير لمصر فى صمت مهيب على مدى خمسة عقود متصلة.
■ البداية
قبل عام ونصف العام من تاريخ الوفاة.. اتصال على هاتف الجريدة:
- أنت محمد السيد؟
نعم.
- أنت الذى أجرى الحوار مع اللواء فؤاد نصار، رئيس جهاز المخابرات الأسبق؟
نعم أنا هو.
- لكن هذا الحوار فيه الكثير من الأخطاء.
صمتُّ طويلاً قبل أن أجيب، خاصة أننى كنت قد تلقيت الكثير من التعليقات حول تفاصيل عمليات ومواقف قالها اللواء نصار.. وكذلك حديثه عن أشخاص ورموز، ثم قلت فى هدوء: ماذا تقصد؟.. وعن أى أخطاء تتكلم؟
- اللواء نصار أخطأ فى روايته لقصة الجاسوسين هبة سليم وفاروق الفقى.
كيف؟
- الرجل كان مسؤولاً فى هذا الوقت عن المخابرات الحربية.. ولكن الذين نفذوا العملية فعلياً كانوا رجال المخابرات العامة.
من أين حصلت على هذه المعلومات.. التى تتعلق برجل بهذا القدر.
- أنا اسمى..... وعمّى هو الذى قام بالعمليات فى ليبيا قبل حرب أكتوبر 1973 بشهور معدودة.
لم أرد على الشاب الذى كان يحدثنى، ورحت أفكر، واعتقدت للحظات أنه أحد المدّعين.. وما أكثرهم فيما يتعلق بعمليات المخابرات بشكل خاص، ومن يتصفح «المواقع» على الإنترنت سيجد مئات الحكايات والروايات المتضاربة عن عمليات «المخابرات العامة»، وسبب ذلك أن «الجهاز» لا ينشر تفاصيل عملياته، حتى القديمة منها، وذلك لأسباب وجيهة ومنطقية ترتبط بالأمن القومى للبلد.. بعكس ما كان يحدث فى الخمسينيات والستينيات، حيث كان الجهاز - خاصة إدارات «مكافحة التجسس» - تعقد مؤتمرات دورية للإعلان عن عملياتها.. وقلت للمتصل:
ومن عمّك هذا؟
- إنه الفريق رفعت جبريل.
لا أعرفه، ولم أسمع عنه من قبل.
- هل تعرف «التعلب»؟
بالطبع، فقد شاهدت المسلسل منذ سنوات، وأتذكر أبطاله نور الشريف وعبدالله غيث وإيمان.
- إنه هو.
تقصد أن عمك هو «الثعلب»، وأنه هو الذى قام بعملية هبة سليم؟
- نعم مازال حياً يرزق.. وهو يحترم صحيفتكم كثيراً ويداوم على قراءتها، لكن له عتاب كبير عليكم لنشر رواية «نصار» كما هى دون تحقيق وتدقيق.
وكيف نصحح ذلك فى نظره؟ أو هل من الممكن أن نحصل على رأيه هو؟
- لا أعلم.
لدى اقتراح: لماذا لا تعطينى رقم هاتفه لأحدثه بشكل مباشر؟
- هو متحفظ كثيراً فى هذا المجال.
لكن البعض تحدث فعلياً.. ومعظم أبطال المخابرات باتوا معروفين للناس.
- دعنى أحاول معه.
بعد يومين، حدثنى الشاب ثانية، وقال لى إن عمَّه رفعت جبريل وافق على أن تجلس معه.. ولكنه لا يقيم حالياً فى القاهرة وإنما فى بلدته شبرا أوسيم مركز كوم حمادة بمحافظة البحيرة، وإجراء حوار معه قد يتطلب جهداً منكم، خاصة أن الرجل ظل صامتاً منذ خروجه إلى المعاش فى منتصف الثمانينيات.
جهزت أوراقى والكاسيت وشرائط التسجيل وقمت بعمليات بحث واسعة عن عمليات الرجل فى مواقع الإنترنت، ولكن النتيجة التى توصلت إليها حين بحثت عن «فؤاد نصار» تكررت هذه المرة.. معلومات ناقصة ومتضاربة عن رفعت جبريل، أما «الثعلب» فمعظم المعلومات عن المسلسل، إضافة إلى الكثير من المنتديات التى تمتلئ بمعلومات لا مصدر لها ولا مصداقية على الاطلاق. لجأت إلى عدد من الأصدقاء والمصادر ليحدثونى عن الرجل فلم أجد شيئاً.
تحركنا، أنا والزميل المصوّر حسام فضل، على الطريق الزراعى وصولاً إلى «كوم حمادة» وهناك فى «المدينة» كان ينتظرنا أحد أقارب «الثعلب» ليوصلنا إلى قريته الهادئة الصغيرة.. حيث الهواء النقى والحقول الخضراء على امتداد البصر.. وطرق متعرجة وضيقة. وقفنا أمام دوار كبير على حافة ترعة واسعة وحوله زراعات شاسعة للذرة، فتح أحد المزارعين الباب لندخل مزرعة بسيطة للغاية.. بقايا محاصيل زراعية.. ومكان للدواب.. وبيت ريفى إلى اليسار وحقل الذرة إلى الخلف.. وأمامه مجموعة من المقاعد الخشبية البسيطة.. اعتقدت لحظات أننا فى المكان الخطأ.. وفى انتظار الشخص الخطأ.. ونظرت لزميلى حسام فضل.. لأجد فى عينيه نفس المعانى.. قطع تفكيرنا نفس المزارع ليقدم لنا كوبين من الشاى.. وقال لنا: سيادة الفريق جاى حالاً.
«من أين يأتى الفريق؟» قلتها لنفسى.. فى الخلف وأسفل مظلة خشبية بسيطة كانت سيارة مرسيدس من موديلات الثمانينيات فى الانتظار.. قلت «هى سيارته بالتأكيد».. وفى انتظار الرجل حدثنا الشاب عن بلدتهم هذه.. وعن «الثعلب» وعاداته اليومية وعن عائلته التى يتوارثون فيها منصب «العمدة» فى البلد، وعن أخيه مدير أمن بورسعيد الأسبق، الذى شهد هناك واقعة الاعتداء على الرئيس الأسبق حسنى مبارك.. كما تحدث مطولاً وبدون تدقيق عن عمليات «الثعلب» ولماذا يفضل معيشة القرية على المدينة.. وكذلك عن اجتماعاته المطولة مع نور الشريف قبيل تصوير مسلسل الثعلب.
من جانب البيت الريفى البسيط وإلى جوار حقل الذرة.. خرج الرجل الثمانينى يرتدى جلباباً ريفياً واسعاً وعلى عينيه نظارة شمسية.. لم أعرفه لأول وهلة.. ثم قدمه الشاب إلينا، فوقفت سريعاً ومتأملاً فى وجهه وبكثير من الاحترام والتبجيل قلت: أهلاً يا أفندم.
عندما تلتقى مسؤولاً مهماً فى مكتبه ووسط سلطانه ورجاله وحرسه، تأخذك الرهبة للحظات، وربما لدقائق أو أكثر، أما الرهبة من «قيمة الرجال» وتاريخهم وذاكرتهم ووطنيتهم، فهى شىء خاص جداً..
عقل الرجل ومواجهاته وخططه لصالح مصر.. هو ما كنا نسعى إليه، على مدى ساعة كاملة، دارت مناقشات ساخنة بيننا، حول المخابرات وصمت رجالاتها.. والضوابط واللوائح التى تضبط ذلك، وكيف يلتزم البعض.. ولا يلتزم آخرون، ولماذا نأخذ معلوماتنا عن عملياتنا وأبطالنا من المخابرات الأجنبية، خاصة الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية، بينما يفضل أبطالنا الصمت، وحتى لو كانت هناك ضوابط محددة لهذه العمليات فلماذا كتب البعض، مثل صلاح نصر، مذكراتهم بشكل مطول، وآثر الآخرون غير ذلك؟
وبعد كثير من الشد والجذب، وافق الرجل على إجراء الحوار وتسجيله، على أن نجلس سوياً لمرات عديدة لنواصل توثيق المعلومات والعمليات، وقال لنا: سأذكر هنا ما كنا نعلن عنه فى الستينيات من عمليات لمكافحة التجسس.. وكذلك سأتكلم عن القضايا والمهام التى قمت بها فقط.. ولن أتطرق إلى عمليات الآخرين، كما أننى سأصل إلى النتائج دون الخوض فى العمليات الفنية. وافقت على شروطه فوراً، وقلت له: لى طلب فى المقابل.. وهو أن نبدأ برحلتك من بلدتكم هذه وصولاً إلى المخابرات العامة وانتهاء برئاستك لجهاز «الأمن القومى».. فوافق الرجل وعاد بنا إلى الوراء.. وبالتحديد ما قبل تخرجه فى الكلية الحربية عام 1950.
أنا من مواليد 1928.. كان أبى ميسور الحال.. وألحقنى بمدرسة دمنهور الأميرية التى كانت فى هذا الوقت مدرسة الأثرياء والأعيان.. وأتذكر أننى كنت وأنا طالب أركب حصاناً إلى محطة القطار فى «كوم حمادة» ومنها إلى دمنهور يومياً.. لكننى لا أتذكر الآن ملامح والدى إلا عن طريق الصور الموجودة لدينا، فقد مات وأنا فى السابعة.. ومرت الأيام حتى حصلت على «التوجيهية» ومنها دخلت كلية التجارة جامعة القاهرة. وأتذكر أننى فاتنى، فى هذا العام، موعد تقديم «الكلية الحربية» التى كانت أملى وحلمى الكبير.. كانت الكلية فتحت أبوابها للمصريين من أبناء الطبقة الوسطى والفلاحين فى هذا الوقت، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن الحلم تأجل لعام كامل.
مر العام ثقيلاً ومملاً، ورغم تفوقى إلا أننى كنت أركز على موعد تقديم «الحربية».. ولأننى كنت أخشى أن يفوتنى الموعد كنت أذهب إلى مقر الكلية الحربية صباح كل يوم للتأكد من أنهم لم يفتحوا باب التقدم رغم أننى كنت أعرفه جيداً.
وفى هذا الزمان.. كانت «الكلية الحربية الملكية» بالواسطة.. وشاء القدر أن أتعرف على مدير عام القرعة «التجنيد حالياً» فى جلسة عائلية، وحين أدرك الرجل طموحى قرر مساعدتى، ونجحت فى جميع الاختبارات، وجاء كشف الهيئة «كشف تحديد المصير»، وكانت اللجنة برئاسة حيدر باشا، وزير الحربية فى هذا الوقت، وعثمان باشا المصرى، رئيس الأركان، وبعضوية مجموعة من كبار رجال الجيش.
وكانت «واسطتى» كبيرة، كما قلت، ولكن كان علىَّ أن أقدم ما يثبت ملكية عائلتى أطياناً زراعية أو غيرها.. وكانت المفاجأة غير السارة، والتى كادت تعصف بأحلامى بعد كل هذا العناء، هى أن الورود الخاصة بالأطيان، أى «إيصالات سداد الضرائب»، ليست بالملف، رغم أنها مدونة فيه، وكانت مفارقة كبيرة.
وقفت حائراً أمام حيدر باشا «فى كشف الهيئة».. فورقى مكتمل ولكن إدارة الكلية كانت قد ردت إيصالات الضرائب لى بحجة عدم وجود «إعلام وراثة» فى الملف.. وبجرأة حكيت لـ«حيدر باشا» هذه المعلومات فصاح فى وجه صبحى بك مدير الكلية «إيه الفوضى ديه؟!»، ورد عليه مدير الكلية بضرورة وجود إعلام وراثة، وعندها قلت: «بصراحة، الكلية حلمى الكبير.. ولن أتخلى عنه بسهولة»، ويبدو أن حيدر باشا أعجب بكلامى.. وقال لى برفق: «اذهب فوراً وهات أوراقك، ونحن منتظرون»، فقلت له: «أنا محتاج يوم على الأقل»، وإذا بحيدر باشا وسط هذا الجو المشحون واللحظات الحرجة يصيح قائلاً: «ليه هتروح راكب جحشة؟!».
وضحك الجميع.. ولم أضحك إلا عندما سمعت اسمى ضمن المقبولين.
■ متى تخرجت؟
- أنا دفعة 1950.. ودفعتنا استمرت فى الكلية 18 شهراً فقط.. وكان الجيش خرج قبلها بشهور من حرب 1948، ولهذه الظروف تم تكثيف مدة الكلية.. وأنا كنت متفوقاً فى الرياضة والفروسية والرماية حتى أصبحت أحد قيادات الطلبة «أمباشا» أى رئيس مجموعة، ويشاء القدر أن يكون شعراوى جمعة، وزير الداخلية، فيما بعد، هو الضابط المسؤول عن تدريبى.
بعد الكلية، بدأت مشوار الكفاح فى سلاح المدفعية، وفى إحدى ليالى الصيف الحار فى 1951، كان هناك حدث أكثر سخونة من هذه الأجواء.. حيث تم قبولى فى تنظيم «الضباط الأحرار» بترشيح من خالد فوزى، رئيس إحدى شعب التنظيم.. وهو عمل كأمين عام رئاسة الجمهورية لاحقاً.. توسم الرجل فىَّ خيراً.. وبعد مناقشات وتساؤلات اطمأن إلى جديتى، وأنا من جانبى آمنت بالتنظيم وجديته.. ولذلك لم أتردد لحظة واحدة فى عضويتى وانتمائى للتنظيم، رغم المخاطر الكبيرة التى كان من الممكن أن أتعرض لها وأنا فى بداية حياتى.
وكنت حين قامت الثورة مسؤولاً عن مخازن الذخيرة فى سريتى بالمدفعية، وقمت بتهريب الذخيرة وتسليمها إلى على شفيق، سكرتير المشير عامر فيما بعد، كما أننى كنت أقوم بتوزيع المنشورات داخل الجيش، أما ليلة 23 يوليو فقد كنت مسؤولاً عن أمن نقاط التفتيش بمنطقة العباسية، التى كانت تعج بمعسكرات وثكنات الجيش، وشاركت فى القبض على عدد من أصحاب الرتب الكبيرة التى كانت تمثل عائقاً كبيراً أمام نجاح الثورة.
واستمرت خدمتى بالجيش، وقبل انضمامى للعمل بالمخابرات العامة منتصف 1957، شاركت فى حرب 1956، وأتذكر عدداً من المهام التى قمت بها أثناء الحرب مع زملائى ومنها قطع الطريق على القوات الإنجليزية ومنعها من دخول القاهرة عن طريق وادى المعادى، كما شاركت فى زراعة الألغام فى قناة السويس لمنع تقدم أى بواخر لتحالف العدوان الثلاثى.
وحتى قبل انضمامى للمخابرات، كنت قريباً من هذا العمل، وخلال الحرب، أشرفت على جمع المعلومات عن العدو الذى كان وقتها قد بدأ يتقدم من السويس للقاهرة، وكنا ندفع ببعض المواطنين لجمع الأخبار عن العدو وتحليلها وإمداد الجيش بها.
وقبيل تشكيل جهاز المخابرات العامة، كان لدينا فى مصر ما يسمى «مخابرات الحرس الوطنى»، وكنت ضابطاً بهذا الجهاز.. وبرز دورنا من خلال تدريب الشعب، وإقامة معسكرات فى كل محافظة، لكن بعد انتهاء الحرب لصالح مصر.. تقرر إنشاء جهاز مستقل للمخابرات حيث ظهرت أهمية ذلك، وجاء الوقت ليصبح لمصر مخابرات قوية تحفظ أمنها القومى.
وللعلم، فقد كانت هناك اجتهادات قوية لإنشاء «المخابرات» على يد زكريا محيى الدين.. وعلى صبرى.. ولكن للأمانة فإن البداية الحقيقية لنا كانت مع صلاح نصر.
■ وماذا تقصد بـ«الاجتهادات»؟
- «زكريا محيى الدين» تم تكليفه من جمال عبدالناصر بإنشاء جهاز مستقل للمخابرات، لكن المسؤول المباشر كان على صبرى، الذى جاء من سلاح الطيران، وبالفعل كانت البداية بمقر فى منطقة منشية البكرى.. ورغم تأكيدى أن المفهوم الحقيقى لعمل المخابرات تم مع مجىء صلاح نصر للجهاز، إلا أن عمليات مخابراتية مهمة سبقت هذا التاريخ.. فزرع رأفت الهجان فى إسرائيل والكشف عن تفجيرات اليهود فى القاهرة والإسكندرية تم قبل 1957.
■ بالمناسبة.. هل عملت مع رأفت الهجان؟
- لا.. العملية تمت قبل إنشاء الجهاز.
■ لكن رجال المخابرات كانوا يتواصلون معه على مدى عشرين عاماً تقريباً؟
- زملاء آخرون كانوا مسؤولين عنه.
■ وما رأيك «الفنى» فيه؟
- كرجل مخابرات.. ومسؤول سابق عن «مكافحة التجسس» أؤكد أن العميل لا يستمر أكثر من 4 سنوات.
■ وبعدها؟
- يصبح عميلاً مزدوجاً للطرفين.. أو يتم استبداله.
■ ووضع «الهجان»؟
- ساعده الإسرائيليون كثيراً.. وكانت له شركات واستثمارات عديدة فى أوروبا فيما بعد، والمسلسل قدمه ببريق مبالغ فيه للغاية.
■ وماذا كانت أول مهمة لك عند دخولك الجهاز فى 1957؟
- كشف ومكافحة التجسس الإسرائيلى.
■ وما الرتبة التى كنت وصلت إليها وقتها فى الجيش؟
- «نقيب»، ترقيت بعد ذلك إلى رتبة «رائد» فى بداية عملى بالمخابرات العامة، وتم وضعى تحت التدريب لمدة عامين، وكان يقوم بتدريبنا مجموعة من المصريين، من بينهم موظف فى وزارة الأوقاف كان يهوى قراءة كتب عن الحرب العالمية واستخلص منها خطوات التدريب، وعلى فكرة لا يوجد جهاز مخابرات يمد آخر بخبرات، وكانت هناك كتب أمريكية ندرس بها مبادئ المخابرات، ونحن فى بداية عملنا فى الجهاز كنا ننحت الصخر، وعرفنا كيفية ممارسة العمل والجاسوسية، واكتسبنا الخبرة من الصراع الدائر حول مصر، وكما يقول المثل «الشاطر يغزل برجل حمار»، فلقد استخدمنا «عقولنا» التى غلبت الموساد الإسرائيلى CIA الأمريكى وKGB الروسى.
■ معنى هذا أن الـKGB كان يتجسس علينا فى الخمسينيات بالرغم من أن روسيا كانت هى الصديق الأول لمصر؟
- بالطبع ففى عام 67 كنت مشرفاً على الجهاز، وألقينا القبض على جاسوس روسى، كان خبيراً فى القوات المسلحة، من ضمن المدرسين للتدريب على استعمال السلاح.
■ إذن كنت مع قرار السادات بطرد السوفييت؟
- نعم، وكنت وقتها فى مأمورية باليمن عام 1971 ومن شدة سعادتى بقرار السادات أرسلت له برقية عن طريق الخارجية أهنئه على هذا القرار، فلقد كانوا «مخربين» فى البلد، وكنت أكرههم بالفعل.
■ وماذا كانت مهمتك فى اليمن؟
- كنت أحضر التحقيق مع ضابط مخابرات إسرائيلى، وكانوا محتاجين إلى خبير لاستجوابه، كانت السلطات اليمنية قد ألقت القبض عليه، وكان يدعى «باروخ مزراحى»، وطلبت اليمن من مصر المساعدة فى التحقيق معه، وذهبت إلى هناك بصفتى أحد خبراء المخابرات لاستجوابه، وعندما علم أننى مصرى تحدث على الفور، فنحن «دارسين بعض» جيداً، سواء المخابرات المصرية أو الإسرائيلية. وهذا الجاسوس له قصة شهيرة سنرويها فيما بعد.