قبل ثلاثة أعوام تقريباً، دخلت مبنى المخابرات العامة فى كوبرى القبة، ضمن مجموعة متوسطة العدد من الإعلاميين والصحفيين لحضور احتفال توقيع المصالحة الفلسطينية الذى رعته المخابرات بقيادة رئيسها فى هذا الوقت اللواء مراد موافى، وخرجت مبهوراً ومتفائلاً بالمستقبل وبدور المخابرات المهم فى القضايا المصيرية لمصر، خاصة بعد الثورة، وأنها من الممكن أن تعيد استلهام ريادتها التى اعترف بها العدو قبل الصديق وذلك منذ نشأتها منتصف الخمسينيات من القرن العشرين حتى منتصف السبعينيات.
وكتبت فى حينها مقالاً مطولاً كان بعنوان «البعث الخامس للمخابرات» اعتبرت أن هذا التاريخ الذى يسمح فيه للسياسيين والإعلاميين المصريين والأجانب بالدخول بأقلامهم وكاميراتهم إلى عمق هذا المبنى المهيب والعملاق - بمثابة بعث خامس للمخابرات التى بدأت عملها ونشاطها مع زكريا محيى الدين عقب ثورة يوليو مباشرة، وازدهرت مع تأسيس «الجهاز» رسمياً وقيادة صلاح نصر، واستمرت نجاحاتها ودأبها خلال سنوات الحرب والسلام، ثم تشعبت مهامها فى عهد الراحل عمر سليمان. لم أنشر المقال لأن «المصالحة» تعثرت مع تعنت الفرقاء الفلسطينيين.. وبعد ذلك بدأت الدعاية السلبية من «الإخوان» مع وصول مرسى للحكم ضد الأجهزة السيادية فى الدولة ومن ضمنها «المخابرات».. «الجهاز» اليوم يحتاج إلى جهد خاص من قياداته ومن الدولة بشكل عام لإعادة البريق للصورة الذهنية لرجاله ولعملياتهم. المخابرات ليست تقارير فقط عن أحداث الثورة وعن عمليات سيناء، ليست وساطة وجهداً غير مثمر مع الفلسطينيين بسبب تفرقهم ووحشية الإسرائيليين. المخابرات تاريخ وإنجاز وواقع ممتد لمئات الرجال الذين عملوا فى صمت ورحل بعضهم دون أن يعرف ذووهم طبيعة أعمالهم.
فى السنوات الأخيرة، ولا أعرف هل عن عمد أم لا، توارت القصص والأفلام المنقولة عن بطولات المخابرات العامة.. ولا أقصد هنا أفلاماً ومسلسلات هى أقرب للخيال والحبكة الفنية منها إلى الواقع، فيما مئات الملفات وسير عشرات العظماء محجوبة عن المصريين. نحن شعب استبد به اليأس والمشاكل وأزمات الحياة، ويحتاج إلى بصيص من أمل للمستقبل.. وهذا الشعب تم تفريغ ذاكرته الجمعية من نضال المحاربين العظماء على الجبهة العسكرية وفى عمق الدولة.. وأعتقد أن علينا أن نؤكد لأطفالنا وشبابنا أن مصر مليئة بالقامات الكبيرة، وأنه حينما عمل هؤلاء بإخلاص ودأب وبحب حقيقى لبلدهم تقدمنا وانتصرنا. لا مبرر الآن لحجب تاريخ المخابرات عن الجيل الجديد.. لا مبرر لأن نترك لمجموعة محدودة من أنصاف الموهوبين أو مدعى البطولات السيطرة على الساحة، فيما سير العظماء مهملة، لا ينبغى أن يتجاوز المؤرخون انتصارات المخابرات على إسرائيل.. لماذا لا يكون هناك أبحاث ورسائل موثقة عن نشأة «المخابرات» فى 1954 بقرار من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وتكليفه لزكريا محيى الدين بإنشائه واختيار مساعديه؟ لماذا لا يرتبط الأخير فى أذهاننا إلا بتقربه من أمريكا وأنه كان البديل «المرفوض شعبياً» لعبدالناصر، حين تنحى الرئيس الراحل عن الحكم عقب هزيمة يونيو 1967؟.. لماذا لا تفرد الأبحاث والصحف للرجل وتقول عنه إنه جمع عدداً من أذكى وأبرع رجالات الجيش وطلب منهم خلع الزى العسكرى واستبدال الأزياء المدنية به، استعداداً لبناء الجهاز؟ لماذا لا تتحدث الأعمال الدرامية عنه كمؤسس للمخابرات، باستثناء إشارة إليه باسم مستعار فى «رأفت الهجان»؟،.. بل لماذا لا يقال صراحة إنه هو من سمح بالعملية من الأساس؟! من يعرف دور على صبرى وكمال الدين رفعت ومصطفى المستكاوى وسعد عفرة وفريد طولان وعبدالقادر حاتم وأحمد كفافى وفتحى الديب ومحيى الدين أبوالعز وعبدالمحسن فائق ومحمد نسيم وطلعت خيرى وعلى السمان ومحمد عبدالسلام المحجوب ومحسن النعمان ومحمد إبراهيم وبرهان حماد وعلى صادق ورأفت شحاتة، وغيرهم العشرات من الأبطال، وبعضهم عمل فى تأسيس «الجهاز» وبعضهم تم تكليفه بعمليات فى الخارج أو عمل ضمن «مكافحة التجسس فى الداخل؟! فى الحوار المنشورة أولى حلقاته اليوم مع الفريق رفعت جبريل يقول إنه كان يعقد مؤتمرات صحفية بشكل أسبوعى، وبالتحديد يوم الجمعة للكشف عن عمليات المخابرات الناجحة ومعظمها كان فى مقاومة التجسس.. صحيح أنه كانت هناك ضوابط للنشر.. وكان الاسم المستعار للمسؤول المخابراتى هو السائد على مدار 15 عاماً تقريباً، إلا أن الجهاز القوى كان لديه ما يقوله للرأى العام.. ولذلك وبمتابعة عشرات الأفلام المصرية فى هذه المرحلة «حتى الكوميدى منها» ستجد فيها عمليات مخابراتية كان صانعو الأفلام فى حينها - وفى الغالب - يحصلون عليها من صحافة السبت! ماذا حدث إذن؟.. ولماذا تغيرت الأمور؟ من خلال إجابات مقنعة ومحددة حصلت عليها من قيادات سابقة فى «الجهاز» توصلت للآتى: بالمزيد
المكان: مسجد آل رشدان فى مدينة نصر.. الزمان: مساء الخميس 18 ديسمبر 2009.. أكثر من قاعة للمناسبات تعلو فيها أصوات المقرئين بآيات الرحمة «للمسلمين وأمواتهم».. دُرتُ دورة كاملة حول المسجد من الاتجاه المقابل لاستاد القاهرة حتى وصلت إلى القاعة المنشودة.. وجوه عديدة لا أعرف من أصحابها أحداً، لكن لوحة بيضاء فى صدر القاعة دلتنى إلى غايتى: «عزاء المغفور له بإذن الله الفريق محمد رفعت جبريل، رئيس جهاز الأمن القومى الأسبق».بالمزيد