أصبح تنظيم «داعش»، الذي اشتهر بجز الأعناق والصلب والإعدامات، الجماعية يوفر الكهرباء والمياه ويدفع الرواتب وينظم حركة المرور في الشوارع ويدير كل شيء تقريبا من المخابز إلى البنوك والمدارس والمحاكم والمساجد في شمال شرق سوريا.
وفي حين أن أساليبها عديمة الرحمة في ساحة القتال وتشددها في فرض تفسيرها المتشدد للشريعة الإسلامية، جعلها محط الأنظار، فإن الناس الذين يعيشون في كنفها يقولون إن جانبا كبيرا من قوتها يكمن في كفاءتها وقدرتها التي تتسم بقدر كبير من النهج العملي في الحكم.
وتمثل محافظة الرقة في شرق سوريا أفضل مثال على ذلك، ويرى أفراد التنظيم أن المحافظة تمثل صورة مثالية للحياة في ظل الخلافة الإسلامية، التي يأملون أن تمتد يوما من الصين إلى أوروبا.
وعاصمة المحافظة مدينة كان يقطنها نحو ربع مليون نسمة قبل بدء الحرب السورية قبل نحو 3 أعوام، وأصبح التنظيم مسيطرا على كل المؤسسات والخدمات العامة فيها تقريبا.
وقال أحد النشطاء من الرقة يعيش في مدينة حدودية في تركيا: «لنكن صادقين إنهم ينجزون عملا مؤسسيا هائلا، شيء مبهر».
وفي مقابلات تمت كلها عن بعد وصف سكان يعيشون في المحافظة ومقاتلون من«داعش» بل ونشطاء يعارضون المجموعة كيف أقام التنظيم هيكلا مشابها لحكومة حديثة في أقل من عام تحت قيادة زعيمه أبو بكر البغدادي.
وأثار ما حققه التنظيم من تقدم انزعاج القوى الغربية والإقليمية، أغسطس الماضي، وشبهه الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بـ«سرطان» لا بد من استئصاله من الشرق الأوسط، وبدأت الطائرات الحربية الأمريكية تقصف مواقعه في العراق، لكن «داعش» تغلغل في نسيج الحياة اليومية في مناطق مثل الرقة لدرجة سيكون معها من شبه المستحيل أن تتمكن الطائرات الأمريكية والقوات العراقية والسورية والكردية اقتلاعها بالقوة وحدها.
وفي 2013، أصبحت الرقة أول مدينة تسقط في أيدي المقاتلين الذين يحاربون للإطاحة بالرئيس السوري، بشار الأسد، وأطلقوا عليها «عروس الثورة».
وكان لعدة جماعات مقاتلة من الإسلاميين المتشددين إلى جماعات دينية معتدلة نفوذ في المدينة رغم أنه كان من الواضح أن الإسلاميين هم القوة المهيمنة،و خلال عام استطاع«داعش» أن يمسك بكل الخيوط وسعت للقضاء على كل خصومها فلم تأخذها بأحد شفقة أو رحمة.
وكان مصير النشطاء من منتقدي التنظيم القتل أو الاختفاء أو الهروب إلى تركيا، ومنع تناول المشروبات الكحولية، وأغلقت المتاجر عصرا، وأصبحت الشوارع خالية من المارة عند حلول الظلام، ولم يسمح بالاتصال بالعالم الخارجي بما في ذلك المدن المجاورة إلا عن طريق المركز الإعلامي للتنظيم.
وأعلن من بقي من المقاتلين والنشطاء توبتهم ومن خلال التوبة يعلنون البيعة للبغدادي ما يتيح لهم أن يغفر لهم «داعش» ما ارتكبوه بحقها من ذنوب، ولزم البعض بيوته وسمح لآخرين بالانضمام إلى صفوف التنظيم.
غير أنه بعد الحملة المشددة في أول الأمر بدأ التنظيم يقيم الخدمات والمؤسسات موضحا بكل جلاء نيته في البقاء ومستخدما المنطقة كقاعدة في سعيه للقضاء على الحدود بين الدول وإقامة «الدولة الإسلامية».
وقال أحد القادة في المحافظة «نحن دولة، والأمور رائعة هنا لأننا نحكم بما أنزل الله»، وبقي بعض المسلمين السنة الذين كانوا يعملون في حكومة الأسد بعد أن بايعوا التنظيم.
وقال أحد المقيمين في الرقة ممن يعارضون «داعش» إن «المدنيين الذين ليس لهم أي انتماءات سياسية تكيفوا مع وجود التنظيم، لأن الناس سئموا وملوا، وللأمانة، لأنهم يقومون بعمل قائم على المؤسسات في الرقة».
وأضاف أنه منذ ذلك الحين «استعاد التنظيم كل المؤسسات المرتبطة بالخدمات وأعاد هيكلتها» بما في ذلك مكتب حماية المستهلكين والقضاء المدني.
وفي الشهر الأخير وحده نشر مقاتلو «داعش» صورا لعملية جز أعناق الصحفيين الأمريكيين جيمس فولي وستيفن سوتلوف وأسرى أكراد ولبنانيين وكذلك مشاهد تصور عمليات إعدام عشرات الأسرى السوريين بالمدافع الرشاشة وهم لا يرتدون سوى ملابسهم الداخلية، لكن استخدام التنظيم للعنف لم يكن عشوائيا بالكامل. فقد أبرم معاملات مع رجال أعمال موالين للأسد كلما اتفق ذلك مع مصالحه.
ويقول أحد المقاتلين إن موظفا كان يعمل في السابق بحكومة الأسد أصبح مسؤولا عن المطاحن وتوزيع الدقيق على مخابز الرقة، وبقي العاملون في سد الرقة الذي يزود المدينة بالكهرباء والمياه في مناصبهم، ويكشف استعداد «داعش» لتوظيف العاملين السابقين في أجهزة حكومة الأسد عن اتجاه عملي يقول بعض السكان والنشطاء إنه أساسي لنجاح «داعش» في الاحتفاظ بالأراضي التي استولت عليها.
وساعد «داعش» أيضا مجيء خبراء من دول أخرى من بينها دول في شمال أفريقيا وأوروبا. فالرجل الذي اختاره البغدادي على سبيل المثال لإدارة قطاع الاتصالات في الرقة وتطويره تونسي يحمل الدكتوراه في هذا التخصص كان قد غادر تونس وانضم للتنظيم وأصبح يعمل في التنظيم
وفيما يعكس تأكيد «داعش» أنها حكومة لا مجرد جماعة من المتشددين فصل البغدادي العمليات العسكرية عن الإدارة المدنية وعين بعض المقاتلين كرجال شرطة وبعضهم جنودا في الوحدات المقاتلة، وعين البغدادي نوابا مدنيين أطلق عليهم الولاة لإدارة المؤسسات وتطوير القطاعات.
وتقسم المناطق الإدارية إلى ولايات تتفق في بعض الأحيان مع التقسيمات الحالية لكنها يمكن أن تتجاوز الحدود بين سوريا والعراق، مثلما هو الحال في ولاية الفرات التي تأسست في الآونة الأخيرة، ويتلقى المقاتلون والموظفون رواتب من إدارة تسمى بيت المال تقوم بدور أشبه بدور وزارة المالية وبنك يهدف إلى الحد من الفقر.
ويحصل المقاتل على سكن ربما يكون في أحد البيوت التي تمت مصادرتها من السكان المحليين من غير السنة أو من الموظفين الحكوميين الذين هربوا من المنطقة بالإضافة إلى ما يتراوح بين 400 دولار و600 دولار شهريا وهو ما يكفي لسداد الاحتياجات الأساسية للحياة في شمال شرق سوريا الفقير.
وقال مقاتل إن الأسر الفقيرة تحصل على مساعدات مالية إذ تحصل الأرملة على 100 دولار لنفسها ومثلها لكل طفل من أطفالها.
ويعمل التنظيم على بقاء الأسعار منخفضة، وتعاقب التجار المتلاعبين بالأسعار وتنذرهم وتغلق متاجرهم إذا كرروا المخالفة.
كما فرض التنظيم ضرائب إسلامية على كبار التجار والأسر الثرية. وقال جهادي في الرقة «نحن لا نطبق سوى الإسلام. والزكاة ضريبة إسلامية فرضها الله».
ويقدر المحللون أن «داعش» يجمع أيضا عشرات الملايين من الدولارات من خلال بيع النفط من الحقول التي تسيطر عليها في سوريا والعراق، لرجال أعمال أتراك وعراقيين، وطلب فدى لإطلاق سراح من تحتجزهم رهائن.
وعلى رأس التنظيم، يقف زعيمه البغدادي، الذي أعلن نفسه خليفة للمسلمين، في يونيو الماضي، بعد انشقاقه على تنظيم «القاعدة»، الذي كان يعمل في السابق تحت لوائه.
ويتفق سكان في المدينة ومقاتلون ونشطاء في الرأي على أن البغدادي منشغل بشدة الآن في إدارة الرقة وله القول الفصل في كل القرارات التي يصدرها الولاة والمسؤولون. وتقول المصادر المحلية إن أسعار السلع المحلية تعرض عليه.
ويقول بعض السكان إن البغدادي يقر أيضا عمليات قطع الرقاب وغيرها من الإعدامات وأحكام معاقبة المجرمين الذين تدينهم المحاكم الإسلامية، ويصفه مقاتلون بأنه قائد رهيب يتمتع بخبرة كبيرة في ساحة المعركة.
وقال المقاتل السوري إن البغدادي قاد معارك كبرى مثل معركة استعادة قاعدة عسكرية سورية معروفة باسم الفرقة 17 في يوليو الماضي والتي كانت أول معركة في سلسلة من الهزائم التي ألحقها التنظيم بقوات الحكومة السورية في محافظة الرقة، وقال المقاتل «هو لا يترك الإخوة، كما أنه أصيب بجرح بسيط في معركة استعادة الفرقة 17 لكنه بخير الآن»، وأضاف: «هو دائم الحركة، ولا يبقى في مكان واحد. ويتنقل بين الرقة ودير الزور والموصل. فهو يقود المعارك».
,رغم أن النهج العملي كان مفتاح نجاح التنظيم فالعقيدة أيضا لها دور حيوي في الحكم، فقد استهدف البغدادي من خلال إعلان الخلافة وإقامة الدولة جذب الجهاديين والخبراء من دول أخرى. واستجاب الآلاف حسبما يقول أنصاره.
وفي الوقت نفسه يقول «الجهاديون» إن أثرياء الإسلاميين أرسلوا المال من مختلف أنحاء العالم إلى الرقة لدعم «الخلافة».
وتقول مصادر في الرقة إن المجموعة تدير ثلاثة مصانع للأسلحة تهدف في الأساس لتطوير صواريخ. ويتولى حراس حماية علماء أجانب يقيمون في مكان خاص من بينهم مسلمون من الصين حسبما يقول مقاتلون، وقال جهادي عربي «علماء ورجال يحملون شهادات ينضمون للدولة».
كما استثمر التنظيم بكثافة في الجيل التالي بتعليم الأطفال أسس العقيدة، وأصبحت المناهج الابتدائية والثانوية والجامعية تتضمن المزيد من الدراسات الإسلامية، كذلك فإن التنظيم يقبل مشاركة المرأة في القتال ويتم تدريب المتطوعات من النساء وتلقينهن دروسا في الإسلام ودواعي القتال.
وتنظم مجموعات للدراسات الإسلامية في المساجد للمقاتلين الجدد الذين يقول متشددون في الرقة إنهم أقبلوا على الأراضي الخاضعة للتنظيم بأعداد أكبر منذ أعلن البغدادي الخلافة.
وقال «الجهادي العربي»: «كل 3 أيام نستقبل ألف مقاتل على الأقل. بيوت الضيافة تمتلأ عن آخرها بالمجاهدين. ونفدت أماكن الاستقبال لدينا».