قد تجلس على مقهى تتناقش وأصحابك في كواليس السياسة وأساليب حكم الدولة، وأخطاء الحكام وحكوماتهم، إلا أنك إذا ما جلست على كرسي الحكم يومًا، قد تتغير في أعينك كل المقاييس والمعايير التي بنيت عليها آراءك السابقة، وقد يكون هذا ما حدث مع معظم حكام مصر الحديثة، والذين عبروا عن ثقل المهمة وصعوبتها في مقولات تبقى خالدة شاهدة على حجم المسؤولية التي وقعت على كاهلهم، قد يكون آخرها ما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسي للإعلاميين في الجلسة التي جمعته بهم، السبت، «أقسم بالله العظيم ما كنت عاوز المسؤولية دي».
في أواخر يوليو من عام 1952، حزم الملك فاروق الأول حقائبه استعدادًا لمغادرة بلاده منفيًا إلى إيطاليا، بعد قيام ثورة على حكمه، الذي استمر قرابة ستة عشر عامًا، قادها الجيش والتحق بها الشعب، وبينما كان «فاروق» في طريقه للمغادرة يلتقي باللواء محمد نجيب، قائد الضباط الأحرار، ورغم أن «نجيب» كان يقود الثورة ضده في اعتقاده، إلا أن الملك المعزول لم يبخل بنصيحة أسداها لخليفته في الحكم، قائلًا للواء العسكري: «ليس من السهل حكم مصر»، وقد روى «نجيب» نفسه القصة في مذكراته التي صدرت بعنوان «كنت رئيسًا لمصر».
أصبح «نجيب» أول رؤساء جمهورية مصر العربية حديثة الولادة، بعد عام من الوقعة السابقة، لكن توجهاته لم تتفق وتوجه باقي الضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر، ليصلوا لطريقًا مسدودًا بعد عام فقط من حكم «نجيب»، هذا الرئيس الذي كان معشوق الجماهير، لكن مع عزله وتحديد إقامته، وتولي «عبدالناصر» الحكم من بعده، التفت الجماهير حول «ناصر» ونسى الشعب لواءهم المحبوب، ليكتب في مذكراته: «العبارة الأخيرة التى قالها فاروق لى: «ليس من السهل حكم مصر». ساعتها كنت اتصور أننا سنواجه كل ما نواجهه من صعوبات الحكم باللجوء للشعب, لكننى الآن أدرك ان فاروق كان يعنى شيئًا آخر.. لا أتصور أن احدًا من اللذين حكموا مصر أدركوه, وهو أن الجماهير التى ترفع الحاكم إلى سابع سماء، هى التى تنزل به الى سابع أرض .. لكن.. لا أحد يتعلم الدرس».
كان «عبدالناصر» رئيسًا شعبيًا من الدرجة الأولى، فلم يأت من قبله أو من بعده من حاز شعبيته، التي لا زالت حتى يومنا هذا حاضرة في الحياة السياسية عبر الفكر الناصري والأحزاب الناصرية، وهو ما لم يحدث مع أي حاكم آخر، وكان ناصر يدرك قوة الشعب وأن صعوبة الحكم لا يسهله إلا التفاف الجماهير حول الحاكم، فكانت له مقولة شهيرة لخص فيها فلسفته: «إن الجماهير هي القوة الحقيقية والسلطة، بغير الجماهير هي مجرد تسلط معادي لجوهر الحقيقة».
ولم يختلف إدراك الرئيس محمد أنور السادات لقوة الشعب، عن سلفه في الحكم، فعندما تولى السلطة عقب وفاة «عبد الناصر» عام 1970، كانت مصر في مرحلة عصيبة في تاريخها، بعد وقوع سيناء في يد المحتل الإسرائيلي قبلها بثلاثة سنوات، وكان مطلوبًا من «السادات» في هذه المرحلة اتخاذ قرارات دقيقة وصعبة، أهمها بالطبع قرار الحرب، وقال «السادات» عن صعوبة اتخاذ القرار من موقعه على سدة حكم المحروسة قائلًا: «أن التجربة العملية تقول أنه لا يستطيع أي قائد أو قيادة أن تقرر وتكون على ثقة من القرار مهما كانت الخطورة فيه، إلا على اشتراط واحد، وهو اليقين من إرادة الشعب».
اغتيل السادات في عيد أكتوبر عام 1981، وخلفه على كرسي الحكم نائبه حسني مبارك، والذي أتى في صورة محارب الفساد، وأكد مرارًا على عدم نيته استغلال سلطته، ومن أشهر ما قال في هذا الشأن: «مصر ليست عزبة لحاكمها».
مقولة آخرى قالها الرئيس الذي لم يتصور أن يخرج من قصره مخلوعًا بثورة شعبية: «حكم مصر ليس فسحة، وإذا الشعب لا يريدك فيجب عليك الرحيل»، كان ذلك في حديث تلفزيوني لقناة عربية، فيما عادت المقولة لتطارده وقت ثورة يناير 2011، حيث طالبه الشعب بالالتزام بكلامه، وهو ما رضخ له في الأخير.
بعد قرابة عام ونصف من فترة انتقالية أدارها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تم انتخاب محمد مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين سابقًا، رئيسًا للجمهورية. الرئيس الجديد يذهب إلى التحرير وسط حشود من البشر، يقف بصوته الجهوري يهتف في الجماهير: «أنتم أصحاب الإرادة.. أنتم مصدر السلطة.. أعمل لكم ألف حساب.. أتيت اليوم إلى الشعب المصري.. الكل يسمعني الآن.. لا سلطة فوق سلطة الشعب»، هي كلمات أتت في نفس السياق التي سار عليه سابقيه في السلطة، لكن هل أدركها حقًا؟ تختلف الآراء حول ذلك أيضًا خاصة بعد خروج الشعب ضده في الثلاثين من يونيو، ليعلن تمسكه بالسلطة وافتداءه لها «بدمه».
ترك «مرسي» السلطة دون أن يراق دمه كما قال، بل عُزل بأمر الشعب وقدم للمحاكمة سليمًا معافيًا، وخلفه في السلطة لمرحلة انتقالية استمرت قرابة العام، المستشار عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية العليا، وقد كانت صورة المستشار أمام الجماهير طوال فترة تقلده الحكم هي صورة «الزاهد عن السلطة»، وهو ما فسره لاحقًا في خطاب الوداع قبل تسليمه السلطة للرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي، فقال: «لم أكن أتصور يومًا وأنا في صفوف الجماهير وطأة العبء، وحجم التحديات وصعوبة المهمة أن تكون مسؤولًا عن بلد بحجم مصر.. إن تولي رئاسة مصر، وحتى بدون الظرف التاريخي الراهن، مهمة عظيمة تستمد عظمتها من عظمة هذا البلد».
واليوم يجلس على مقعد الرئاسة رجل جديد، يشعر حسب كلامه بثقل الحمل وصعوبة المهمة، لتكون مقولته عن حكم مصر شاهده عليه: ««أنا قلت أني مش عاوز، ومصدقتونيش، وأنا الآن أقول لكم، أقسم بالله العظيم ما كنت عاوز».