ممر مظلم لا تفارق مياه المجارى الأرضية الخرسانية طوال اليوم، وتفتح عليه أبواب حجرات متراصة لا تتجاوز مساحة أكبرها 3 أمتار فى 3 أمتار، هذه هى عدد من حجرات «مخبأ قبارى 10» الذى كان مخصصا لحماية السكان عقب هزيمة يونيو 1967، إلا أنه تحول مع الوقت إلى مكان لإيواء السكان الذين تعرضت مساكنهم للإزالة أو الإخلاء انتظارا لشقق لم تأت حتى الآن. فى أحد تجمعات هذه المخابئ تفتح 30 حجرة تضم ثلاثين أسرة تخدمهم دورة مياه واحدة يستخدمونها بـ«الدور».
«أحوالنا تصعب ع الكافر.. يا تلحقونا يا ما تلحقوناش»، هكذا صرخت نورا محمود، وهى أرمل تبلغ من العمر 48 عاماً وتقيم داخل إحدى الحجرات الثلاثين فى منطقة المخابئ التى يقع كل منها أسفل عمارة من المساكن الشعبية بمنطقة الجلاء بالقبارى غرب الإسكندرية الباقية منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر حين أقيمت لحماية السكان من الغارات الجوية الإسرائيلية.
بقيت هذه المخابئ مغلقة إلى أن وجد المسؤولون بمحافظة الإسكندرية فيها حلاً سحرياً لإيواء من تعرض منزله للإزالة أو الانهيار، ولا يوجد حصر رسمى للأسر التى تعيش فى المخابئ لكن العدد التقديرى يقرب من 500 أسرة تضم كل أسرة فى المتوسط نحو ثلاثة يعيشون فى هذه الحجرات منذ أكثر من 20 عاماً بعد نقلهم إليها ليعيشوا تحت سطح الأرض وسط البعوض والفئران ورائحة القمامة الممزوجة بالصرف الصحى.
تصف نورا ما اعتبرته «حياة مأساوية» تعيشها مع أسرتها المكونة من 4 أفراد منذ 18 عاماً قائلة: «كنا نسكن فى أكشاك بجوار مركز شباب كرموز بغرب المدينة إلى أن فوجئنا بإزالتها وإحضارنا إلى هنا إلى أن تتوفر مساكن بديلة من خلال المحافظة».
تقول: «كانوا يقولون لنا إنه حل مؤقت، لكنهم نسونا هنا، ولم يسألوا عنا حتى الآن». تدمع عيناها كلما تطلعت إلى صورة زوجها المعلقة على جدار الحائط أمامها، الذى توفى قبل 6 أعوام إثر رحلة معاناة طويلة مع مرض الدرن بدأها بعد أن وطأت قدماه أرض المخبأ، ثم تستطرد قائلة: «يبدو أننا لن نخرج من جحيم خنادقنا هذه إلا إلى القبور».
محمد سعيد الذى يقطن إحدى حجرات المخبأ مع والدته القعيدة، يرى أنه لا يحتاج إلى الانتقال إلى القبور بعد موته، فهو يشير إلى حجرته التى تخنق الرطوبة ساكنيها وتفوح منها روائح المجارى المتسربة إليها، وبابها الخشبى المتهالك الذى لا يخلو مكان فيه من قضمة فأر، يقول بلهجة ساخرة: «هذا قبرنا المؤقت».
يصف سعيد البالغ من العمر 33 عاما مواقف مسؤولى حى غرب التابعة له المنطقة إزاء أوضاع سكان المخابئ بأنها «مسكنات»، موضحاً ذلك بقوله: «طرقنا جميع أبواب المسؤولين، وكان الرد واحداً فى جميع الحالات «ربنا يسهل.. فوتوا علينا بكره».
داخل حجرة أخرى تفتح على الممر ولا تتجاوز مساحتها مترين فى مترين يتسلل شعاع ضوء خافت عبر فتحة صغيرة هى المنفذ الرئيسى والوحيد للحجرة الذى يربطها بالحياة النابضة فى الشارع، وقفت سامية حسن، ربة منزل، تشير إلى شروخ فى السقف تظهر منها أسياخ حديدية مغلفة بالصدأ، وتقول: «شبكة مجارى المساكن التى تقع فوق المخابئ تآكلت والرشح مستمر منها والجدران لم تعد تقبل الترميم، ويخشى سكان المخابئ انهيار المساكن عليهم بسبب تآكل أساساتها وتراكم مياه الصرف داخل المخابئ الموجودة أسفلها». مضيفة: «الكارثة ستقع لا محالة».
لا تقتصر شكوى «سامية» على شروخ الجدران والأسقف، بل تشمل مشكلة وصفتها بأنها «الأخطر»، وهى انتشارالفئران الضخمة بأعداد كبيرة. تقول: «الفئران خربت متاعنا ولم ترحم حتى أجسادنا». تستطرد قائلة: «قبل يومين استيقظ السكان قبل الفجر على صراخ رضيع ليجدوا أنه فأرا قضم أحد أصابع قدمه اليسرى».
لا تقتصر مأساة سكان مخابئ قبارى على الأوضاع المعيشية القاسية بل تمتد إلى غياب الأمن، فكل شخص من السكان عليه أن يحمى نفسه بنفسه أو يقوم شخص آخر بحمايته.
على أحد الكراسى الخشبية المتهالكة القريبة من دورة المياه الوحيدة بالمخبأ جلس حامد السيد، وهو عامل بناء، ينتظر انتهاء ابنته دعاء التى تبلغ من العمر 17 عاماً من الاستحمام، ويشرح أن سبب جلوسه هناك «لحمايتها وخوفاً من تلصص أحد الأشخاص عليها».
تناول السيد كوباً من الشاى وضعه إلى جواره وارتشف منه رشفة طويلة قبل أن يواصل حديثه بلهجة صعيدية قائلاً: «اعتدت على ذلك مع أسرتى، وجميع الآباء هنا يفعلون الأمر نفسه، فالوضع غير آمن، فالمخبأ بلا باب وينتشر فيه، من وصفهم، بـ البلطجية والمدمنين». يرفض أحمد محمود متولى، رئيس حى غرب الإسكندرية اتهامات سكان المخابئ بالتقاعس عن حل مشكلاتهم، لكنه لم ينف وجود قصور فى منظومة العمل داخل الحى بسبب ضعف الاعتمادات المالية المخصصة. يقول: «نقل سكان هذه المخابئ إلى مساكن بديلة أمر صعب، لا نستطيع إغلاقها أو ردمها لأنها تحتاج إلى قرار سياسى من المحافظ مباشرة والوضع الحالى لا يسمح بذلك». يضيف: «الدكتور حسن البرنس، نائب المحافظ، يبحث حالياً إيجاد حل للمشكلة من خلال جهود ومساعدات منظمات المجتمع المدنى ورجال الأعمال بالمدينة، خاصة أنه لم يتم تخصيص اعتمادات مالية من قبل لنقلهم».
يحمّل رئيس الحى قاطنى بلوكات المساكن الشعبية، التى تقع المخابئ أسفلها، مسؤولية تفاقم معاناة السكان لما اعتبره «سلوكيات خاطئة مثل إلقاء القمامة فى الشارع وعدم الاهتمام بصيانة شبكات الصرف الصحى الداخلية الخاصة بوحداتهم السكنية». واعترف مسؤولون سابقون بالمحافظة، بمسؤولية الحى والمحافظة عن مأساة سكان المخابئ، إذ يقول سلام محمد إبراهيم، وكيل المجلس الشعبى المحلى، الذى تم حله فى يونيو 2011 تنفيذا لحكم القضاء الإدارى بحل جميع المجالس الشعبية بالمحافظات، إن مشكلة سكان المخابئ ليست وليدة اليوم، لكنها أصبحت كارثية بسبب «التجاهل الرسمى». مضيفا: «ناقشنا تلك المشكلة عبر جلسات سابقة للمجلس، لكننا لم نكن نملك إلا رفع التوصيات والملاحظات والتى كثيرا ما كان مصيرها أدراج مسؤولى الحى». لم يكن زوج نورا هو الضحية الوحيدة من سكان المخابئ للأوضاع غير الصحية للحجرات، إذ تقول سامية إبراهيم: «الروائح الكريهة التى تسببها المياه الراكدة والمختلطة بالقمامة أصابت أطفالنا بأمراض كثيرة، فلا يوجد شخص فى المخابئ لا يعانى حساسية الصدر أو الربو».وحول تأثير الإقامة داخل تلك المخابئ، يقول الدكتور عبدالمنعم كامل ربيع، رئيس قسم أمراض الصدر والحساسية بجامعة الإسكندرية، عضو الجمعية الطبية الأوروبية لأمراض الصدر، إن التعرض المباشر للرطوبة ومياه الصرف الصحى المختلطة بالقمامة لفترات طويلة يعرض الإنسان للعديد من الأمراض، أبرزها التيفويد والربو الشعبى والسل الرئوى (الدرن).
يضيف: «الأوضاع المعيشية الحالية داخل تلك المخابئ تشكل خطراً داهماً على صحة قاطنيها يصل مداه إلى إصابتهم بمرض التليف الرئوى وكذلك السدة الرئوية المزمنة التى تعد رابع أسباب الوفاة على مستوى العالم».
ويحذر الدكتور فيروز بدران، رئيس قسم الأمراض الجلدية والتناسلية بجامعة الإسكندرية، من خطورة تعرض سكان المخابئ للدغات البعوض المنتشر فوق مياه المجارى بصفة مستمرة وعضات الفئران التى تعد مخزناً لمعظم الأمراض البكتيرية خاصة الطاعون البشرى والحمى الفحمية (السالمونيلا).
ويحذر خبراء من أن المخابئ وكذلك المساكن التى تعلوها أصبحت فى وضع خطير إنشائياً، يؤكد الدكتور فهمى فتح الباب، عميد كلية الهندسة، أستاذ الهندسة الإنشائية بجامعة الإسكندرية، أن النتيجة المنطقية لارتفاع نسبة الرطوبة داخل المخابئ وخارجها بسبب مياه الصرف الراكدة هى تآكل الهيكل الإنشائى والجدران وانهيار الأسقف والأساسات.