فى «الجمالية» و«الأزبكية» و«منشأة ناصر» مواطنون قاطعوا السياسة قبل انتخابات مجلس الشعب فى نوفمبر المقبل والسباق الرئاسى بعد عام من الآن فى سبتمبر 2011، وحسموا اختياراتهم مبكراً: أصواتهم ستذهب لـ«التى شيرت» وطبق «الرز واللحمة».
«المصرى اليوم» كانت شاهدة على جولات وأنشطة أعضاء حملة «مصر تتطلع لبداية جديدة» التى نظمت 30 مائدة من موائد الرحمن خلال شهر رمضان، ووزعت قبل أيام ٢٠٠٠ كيلو لحمة على فقراء الجمالية والمنشأة.سيدة سبعينية تجلس القرفصاء يحيط بها حفيداها، يمسك كل منهما بطبق من البلاستيك، يحاول الحفيد الصغير أن يعبث بالطبق هنا أو هناك، فقد مرت ساعتان ونصف الساعة بعد صلاة العصر ولم يبرحوا هذا المكان، فتصرخ الجدة فى وجهه محذرة إياه من ترك مكانه، مذكرة إياه بالمعركة التى خاضتها وسط الزحام لتصل إلى هذا المكان، وفجأة علا صوت الحفيد «أهه جه يا ستى»،
فاستندت العجوز على شقيقته لتنهض من على الأرض، وأمسكت بطبقها محاولة أن تتناسى الرعشة التى تصاحب حركتها، ومدت الطبق باتجاهه محاولة أن تحصل على بعض «الغموس»، والتفتت إلى حفيديها بنظرة فهما منها أن دورهما قد حان ليمدا طبقيهما أيضاً ويحاولا الحصول على قطعة أو اثنتين من اللحم لعلهم يعودون إلى منزلهم قبل أذان المغرب ليهنأ ثلاثتهم بوجبة طال انتظارهم لها، وما إن أنهى الثلاثة المهمة التى أتوا من أجلها، وحاولوا اختراق الصفوف فى طريق العودة، حتى صرخ الطفل ليصل صوته إلى أذن جدته وسط هذا الضجيج، وسألها: «جدتى مين الراجل اللى صورته فى كل حتة ده»، فأجابته والعرق يتصبب على جبينها «ده ابن الريس» ثم تلاشوا جميعاً وسط الزحام.
أكوام من القمامة تكاد تردم مدخل حى الجمالية الذى يقع أمامه مباشرة مقر حملة دعم جمال مبارك، وما إن تطأ قدماك الحى حتى تصطدم عيناك بالملصقات واللافتات تملأ الشوارع، يتصدر كلا منها صورة لأمين السياسات بالحزب الوطنى تسبقه كلمة «نعم»، وأخرى لداكر عبداللاه، أحد منسقى حملة «مصر تتطلع لبداية جديدة»، وأحد الراغبين فى الترشح لمجلس الشعب على قوائم الحزب الوطنى.
تعلو المقر الذى تم تخصيصه للحملة صورة كبيرة لجمال مبارك بجانبها صورة لعضو مجلس الشعب السابق عن الجمالية ووزير الإسكان السابق محمد إبراهيم سليمان، ولم يجتهد منسقو الحملة فى إخفاء لافتة أخرى تؤكد أن مقرها هو نفسه مكتب سليمان بالدائرة، وتعلن أنه «المقر الدائم لخدمة المواطنين للأستاذ الدكتور المهندس محمد إبراهيم سليمان».
وأمام المقر، وقف عدد من أطفال المنطقة يلهون ويلعبون مرتدين «تى شيرتات» بيضاء اللون مطبوعاً عليها شعار الحملة وصورة لجمال مبارك. أحد الأطفال اعتقد أننا من منسقى الحملة فاقترب منا وقال: «هو علاء جاى إمتى؟»، فسألناه: «علاء مين؟« فنظر إلينا وعيناه مليئتان بالدهشة: «علاء مبارك.. إنتم مش قلتوا إنه جاى عندنا»، هنا أسرع إلى الطفل أحد منسقى الحملة وأشار إلى صورة «أمين السياسات» المطبوعة على التى شيرت الذى يرتديه، وقاله له: «ده جمال مبارك مش علاء»، فأدار الطفل وجهه وقد بدت عليه مظاهر الحسرة، ثم ولانا ظهره وهو يقول: «علاء مبارك مش جاى».
وقبل أذان المغرب بساعة ونصف، بدأ منسقو الحملة فى التجول بين بيوت المنطقة فى محاولة للحصول على توقيعاتهم لترشيح جمال مبارك فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، فى البداية بدا الأمر وكأن منسق الحملة داكر عبداللاه يعرف أبناء منطقته فرداً فرداً، فهم يرحبون به ترحيباً كبيراً فور وصوله، ولكن ما هى إلا دقائق معدودة حتى اتضح الأمر بعدما علمنا أن الحملة تضم 300 شاب من أهالى منشأة ناصر يعملون مع المنسق، وفى كل بيت زرناه كان لأحدهم قريب أو صديق أو جار يضمن أن تحظى الحملة بالاستقبال اللائق.
داخل أحد البيوت الملاصقة لمقر الحملة، وجدنا سيدة خمسينية بصحبة أحد أبنائها، وما إن فتحت الباب حتى انهالت على أعضاء الحملة بعبارات الترحيب وطلبت منهم الدخول إلى المنزل، شرح لها منسق الحملة المهمة التى جاء من أجلها قائلاً: «إحنا حملة لترشيح جمال مبارك لرئاسة الجمهورية فى حالة رفض الرئيس مبارك الترشح وبنجمع توقيعات عشان نؤيد جمال مبارك وبدأنا هنا بأهل حتتنا»، ثم طلب منها التوقيع على الاستمارة، فهرولت إلى غرفتها لجلب بطاقتها الشخصية وهى تردد: «بس كده عينينا ليك يا أستاذ داكر».
وفى طريقنا إلى أحد المنازل استوقفت أعضاء الحملة سيدة أربعينية، بدا عليها التعب والإنهاك الشديدان، قالت إنها علمت بالجولة، وبحثت عنها حتى وجدتها، ثم اتجهت إلى «داكر» وفى يدها طفل لم يتعد الخامسة من عمره، وهتفت: «داكر داكر يا بلاش.. واحد غيره مايلزمناش»، ثم أشارت إلى الطفل قائلة: «عاوزاك تجيبله لبس عشان أبوه رماه فى الشارع ومحدش بيصرف عليه»، وعندما أشار إليها بالموافقة، صاحت من جديد «داكر داكر»، فقاطعها أحد نشطاء «مصر تتطلع لبداية جديدة»: «الحملة دى عشان جمال مبارك»، لتغير هتافها إلى: «جمال جمال يا بلاش واحد غيره مايلزمناش»، قبل أن تطلق سيلاً من الزغاريد وتطلب من أطفال الشارع التوقيع على البيان.
وبعيداً عن المنازل، استوقف أحد أعضاء الحملة شاباً من أهالى المنطقة وطلب منه التوقيع على البيان، لكن الشاب فاجأه قائلاً: «أنا مش موافق ومش هوقع على حاجة»، وعندما حاول بعضهم إقناعه بالعدول عن موقفه، وقال له أحد أصدقائه: «بلاش معارضة مش عاوزين وجع دماغ»، طلب منهم «داكر» ألا يضغطوا عليه ونظر إلى كاميرا «المصرى اليوم» قائلاً: «إحنا مش بنضغط على حد، واللى عاوز يرفض يرفض»، وعندها قاطعه الشاب: «أنا أرفض التوريث وبلدنا طول عمرها حرة»، فسأله منسق الحملة: «يعنى إنت مش رافض جمال عشان جمال؟»، ليرد: «لأ أنا مش معترض عليه هو شخصياً ولو عاوز ينزل الانتخابات يبقى مش الدورة دى»، هنا قال «داكر»: «مش ذنبه إنه ابن الريس عشان نرفضه»، لكن الشاب أصر على موقفه قائلاً: «وإحنا كمان مش ذنبنا إنه ابن الريس عشان ييجى يحكمنا»، ثم كتب «أرفض» على الاستمارة ومضى.
فى مشهد آخر: المواطنة «نجية عبدالحى» تسرع إلى منسق الحملة وتعاتبه بسبب عدم حصولها على «تى شيرت» لابنتها الصغيرة، يجيبها الرجل: «وزعنا امبارح، وهنوزع تانى النهاردة بعد الفطار».
قبل غروب الشمس بلحظات، كان الجميع قد اتخذوا مواقعهم وجلسوا على مائدة الرحمن التى أعدها منسقو الحملة لأهالى المنطقة، تحيط بهم صور «أمين السياسات» من كل جانب، ولكن عيونهم لم تغفل لحظة عن الأطباق التى حصلوا عليها بعد تعب وعناء شديدين. إحدى الأمهات تطعم صغيرها قطعاً صغيرة من اللحم فى فمه قبل أذان المغرب.. الابن الأكبر يرسل لها نظرة عتاب قلقة، تبتسم وتمسح على رأسه: «ماتخافش هسيبلك حتة لحمة». وقبل أن نغادر الجمالية، اقترب منا طفل صغير يحمل صورة جمال مبارك على صدره، اخترق صفوف الأهالى وحاول إصدار ضجة لننتبه إليه، وطلب أن نلتقط له صورة، وعندما سألناه عن السبب قال: «خالى قالى البس التى شيرت ده عشان أستاذ داكر هيفطرنا النهارده» ثم اعتدل فى وقفته وابتسم.. عشان صورة «ابن الريس» تطلع حلوة.
وفى الأزبكية، حاول أعضاء الحملة اجتذاب الأهالى بسرادق كبير يحمل صوراً لابن الرئيس، وتصدر منه أصوات الأغانى الوطنية من سماعة الـ«دى جى» لتصل إلى كل أركان المنطقة تقريباً، ولكن كل هذا لم ينجح فى جمع توقيعات إلا من بعض أقارب منسق الحملة فى المنطقة، وبينما تصدح أم كلثوم مادحةً زعيماً من زمن آخر: «يا جمال يا مثال الوطنية»، تليها أغنية عمرو دياب «واحد مننا» التى تقول كلماتها: «اللى ضحى لاجل وطنه.. لاجل ما يعود النهار. واللى اسم مصر دايماً كان له طاقة الانتصار» احتشد معظم أهالى المنطقة لمشاهدة مباراة الأهلى وطلائع الجيش.