تقول المونتيرة روزاليندا ديلمر مونتيرة الفيلم الشهير «الأرض الإسبانية» الذى كتبه هيمنجواى، «إن السينما التسجيلية لا تستهدف كشف الحقائق وإنما دعوة المتلقى إلى المشاركة» أى أن صانع الفيلم التسجيلى لا يقف دوره عند حدود تقديم بعض المعلومات والأمور المجهولة بالنسبة للمتلقى، ولكنه كلما استطاع أن يجعله متورطاً ذهنيا ونفسيا فى البحث عما وراء ما شاهده على الشاشة كان فيلمه أكثر قوة وعمقاً وتأثيراً.
فى فيلمه التسجيلى «عن يهود مصر» يحاول أمير رمسيس أن يتخذ هذا الموقف «التسجيلى» من أحد أكثر العناصر التاريخية حساسية فى تاريخ مصر الحديث وهو فكرة «التعددية وتقبل الآخر» وذلك عبر موتيفة سياسية وتاريخية شديدة الالتباس والخطورة وهى «اليهود المصريين». اسم الفيلم «عن يهود مصر» وليس (يهود مصر) كما هو شائع لأن «عن هنا» تفيد تجزئة الرؤية أو عرض وجهة نظر فهو لا يتحدث عن «كل» يهود مصر كما يدل العنوان المجرد ولكن عن «بعض» ما يخص تاريخ اليهود فى مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، وذلك للخروج من هذا المثال السينمائى بما يمكن اعتباره رسالة أو إسقاطاً واضحاً على دعاوى رفض الآخر - المختلف فى الدين - التى أصبحت جزءاً أساسياً من الخطاب اليمينى والسلفى فى المجتمع المصرى ما بعد ثورة يناير وربما ما قبلها أيضا.
نحن لسنا أمام مجرد مادة تسجيلية تحكى جانبا من المسكوت عنه فى التاريخ السياسى أو حتى الاجتماعى المصرى ونعنى به وجود اليهود كجزء من نسيج المجتمع ما قبل ثورة يوليو 1952 ولكننا أمام إعادة بناء مشهد تاريخى لا يزال حيا فى الذاكرة حول مجتمع يمارس التعددية الدينية والسياسية والاجتماعية بدون أمراض عنصرية أو فهم خاطئ لمفاهيم الليبرالية والعلمانية وبقدر كبير من الشفافية والمصالح الإيجابية والتقبل النفسى والإنسانى الذى كان يجعله بالفعل مجتمع متحضراً وراقاً، وهو نفس ما يجعل ذات المجتمع - عقب نصف قرن أو يزيد بغياب تلك العناصر المهمة مجتمعاً متخلفاً ومتطرفاً وعنصرياً يتخذ من النظرة الضيقة للدين – والسياسة - تاريخا بديلا يبدأ بالأمس فقط، وكأن ما كان لم يكن، أو كأنه عصر من الجاهلية وما قبل الفتح «الدينى أو السياسى».
يقسّم أمير فيلمه إلى أربعة أقسام القسم الأول هو عرض سريع موجز لطبيعة التواجد اليهودى فى مصر خلال القرنين الأخيرين وحتى قيام الثورة وبداية الصراع العربى الإسرائيلى وهو ما يأتى فى شكل لقاءات مع عدد من المؤرخين والمهتمين، ثم ينتقل إلى شهادات حية من اليهود المصريين سواء الذين هاجروا بعد حرب السويس أو فى بداية الستينيات أو الذين بقوا وأصروا على «مصريتهم»، ويتعامل أمير مع هؤلاء بصريا خلال الفيلم باستخدام أسلوب البورتريه حتى إنه مونتاجياً يقوم بتثبت الكادر على الشخصية «اليهودية» التى تتحدث عن نفسها وتاريخها وعلاقتها بمصر، وكأنه يلتقط لها صورة فوتوغرافية وقد أفادته هذه التقنية فى صياغة هارمونى بصرى مع كم الصور الفوتوغرافية التى تمثل البدن البصرى الحقيقى للفيلم أو المعادل التصويرى لما يقال من شهادات وحكايات ومعلومات عن موضوع الفيلم.
ثم يعقب هذا الجزء بالحديث عن التاريخ خاصة فيما يتعلق ببداية أزمة الصراع العربى الإسرائيلى وجذوره وتأثيره على وضع اليهود فى مصر قبل وبعد الثورة ويعرج على إضافة بورتريهات تاريخية عن أهم الشخصيات اليهودية التى كان لها أثر مهم فى تاريخ الحركة «الوطنية» المصرية.
ولا ننسى الجزء الخاص بسفر الخروج أو كيف خرج اليهود من مصر، فحسب شهادات «الخارجين» أنفسهم أو أبنائهم فإن التحول السياسى الذى شهدته مصر بعد يوليو 1952 والذى اتسم نتيجة الظروف التاريخية لظهور الكيان الصهيونى بكثير من العنصرية والشوفونية وقصر النظر والتشدد هو السبب الرئيسى فى «موت» جزء حضارى حى فى النسيج المصرى ولا نقصد به اليهود ولكن فكرة قبول الآخر - المختلف دينيا وسياسياً - وهو فى رأيى الجزء الذى يمثل الذروة الحقيقية للطرح الفكرى والسياسى والإنسانى للفيلم من الناحية الدرامية البحتة، وهو ذاته الجزء الذى يعيدنا إلى الفرضية التى طرحناها فى البداية، إن المخرج يذهب إلى مثال شديد التطرف - والقوة - لمواجهة أفكار ورؤى ظلامية هى الأخرى متطرفة وحانقة على كل ما هو متنور وحضارى، ولكنه تطرف محمود من قبل هذا السينمائى الشاب، إنه ليس فيلما عن التاريخ بل عن الواقع، المحتقن فقط هو من سيظن أن الحديث عن رؤوس الأموال اليهودية المصرية ومشاركة اليهود المصريين فى الحركة الوطنية ورفضهم للصهيونية، وعن حنين من خروجوا لبلد المنشأ، وعن أمنيات العودة المستحيلة أو رفض المغادرة إلا بالموت - المحتقن من سيظن- أن الفيلم يحتوى على دعاوى «تطبيع» أو دعوة للسلام العالمى أو مغازلة للغرب «اليهوى» - نسبة إلى يهوه إله اليهود - ولكن المادة الفيلمية فى تداعياتها وأسلوبها واختيارتها تعكس قلقاً على مجتمع تفشت فيه العنصرية والتطرف والعبوس فى وجه الآخر من غير أهل الملة.
إن المخرج يقارن بين ما حدث عقب 1952 ما يحدث عقب ثورة 25 يناير ليس على المستوى السياسى ولكن على المستوى الحضارى والاجتماعى، فالسياسة عام 52 هى الدين واليهود ما بعد يوليو قد يكونوا المسيحيين أو الليبراليين أو العلمانيين ما بعد يناير، ولهذا كان من الذكاء والجرأة أن يستعرض المخرج جانبا من تاريخ الإخوان مع اليهود المصريين قبل 52 وبعد قيام الكيان الصهيونى مستشهدا بالوقائع التاريخية المتمثلة فى جرائد تلك الفترة وصور من واقع حرق حارة اليهود وتدمير المتاجر الكبرى لليهود المصريين الذى لم يكن لهم اى علاقة بما حدث فى فلسطين واختيار الإخوان ليس تشهيراً بهم، ولكنه ربط فنى وتاريخى بين حقبتين تجمعهم صفات مشتركة وتلميح درامى إلى الواقع الحالى بتداعياته سواء على الساحة السياسية أو فى الشارع المصرى نفسه.
نتصور أن بعد المتابعة المكثفة للجمهور المصرى للقنوات الفضائية خلال العامين الأخيرين سوف تجعل من أسلوب الفيلم وجبة سهلة التناول فى دور العرض، وهى أكبر إنجاز يحققه صناعه، صحيح أن بعض النقاد يصنف مثل هذا الأسلوب على أنه سينما الكراسى أى أن جزءاً كبيراً من شهاداته وآراء ضيوفه تأتى عبر جلوسهم أمام الكاميرا على الكراسى للحديث والبوح، ولكن لا ننسى أنه إنتاج مستقل لا تقف وراءه إمكانيات مالية ضخمة تتيح أسلوباً بصرياً وسردياً مختلفاً يخرج به من نطاق البرامجية الضيق إلى أفق السينمائية الواسع.
المخرج كان جريئا فى استعراض تاريخ الإخوان مع اليهود المصريين قبل 52