في مدينة رفح الحدودية مع قطاع غزة، تبدو مباني المدينة، كأنها ما زالت أثراً بعد حرب، أو أنقاضاً بعد زلزال، المنازل تصدعت أو انهارت أو ابتلعتها الأرض، حتى الجدار الخرساني الحدودي الفاصل بين المدينة وقطاع غزة، لم يسلم من آثار الحروب. كلمة السر داخل هذه المدينة الحدودية هي «الأنفاق»، التي تمثل «صداعاً مزمنا» في رأس القيادة العامة للقوات المسلحة، التى تدرك حجم الجرح الذي أصابها نتيجة مقتل 16 جندياً من أبنائها رمضان الماضي.
إذ أيقنت بعدها القوات المسلحة أن الأنفاق تمثل «ثغرة» فى «حربها» مع العدو. تتبدل فصول العام، والضباط والجنود لا يزالون على جبهتهم «القتالية»، لا يعبأون بتغيير الطقس، أو انعزالهم فى منطقة حدودية تعانى كثيراً من المشكلات الأمنية الخطيرة، ورغم ذلك تملؤهم الحماسة والإصرار على غلق الأنفاق لتأمين بوابة مصر الشمالية. فى المقابل، أبناء رفح الذين يقتاتون من هذه الأنفاق، باعتبارها مصدر دخلهم الوحيد، ورغم ذلك لا يعارضون إغلاقها، بل يطالبون بتوفير فرص عمل جديدة، ليقوموا بأنفسهم بهدم هذه الأنفاق، المعادلة تبدو صعبة للغاية، إلا أن الجيش لا يؤمن بالمعادلات التي تأتي على حساب دماء أبنائه، تجولنا فى المدينة المنهارة، حاولنا أن نفهم ما يدور فى هذه السراديب المظلمة.
رفح.. مدينة الأشباح التي ابتلعتها الأنفاق
عند الدخول إلى مدينة رفح، تبدو كأنها مدينة أشباح أو بقعة سكنية من مخلفات الحرب، أو ربما أصاب المدينة زلزال، غالبية المنازل بها تشققات وتصدعات، عدد كبير من المنازل سقطت هاوية على عروشها. عند مدخل المدينة يوجد مبنى تحت الإنشاء لقسم شرطة رفح، توقف العمل به أثناء ثورة 25 يناير، بعد اعتداء مسلحين على العاملين به، على جانبي الطريق مداخل تؤدى إلى فتحات أنفاق، كان المشهد الأبرز هو تصدع نسبة كبيرة من المنازل.
في منطقة بوابة صلاح الدين كان يقف عواد أبو خلف، أمام منزله، تحدثنا إليه وسألناه عن سبب تصدع منزله المكون من طابقين فقال «أقيم في هذا المنزل أنا واتنين من أبنائى وهم متزوجون، وأنفقت شقي عمرى لبناء هذا البيت، ولكنى اكتشفت مؤخراً أن هناك نفقين يمران من تحت البيت، وتقع فتحتا النفقين في المنزل الذي يتبع منزلي في الشارع».
وأضاف والدموع تكاد تسقط من عينيه «ليس لى ذنب، ولا أمتلك أى أنفاق، وأصبح المنزل آيلاً للسقوط، وننتظر الموت بين ساعة وأخرى، ولا نمتلك أي أموال لبناء منزل آخر، ولو تركنا منزلنا، وسنعيش في العراء، لابد أن نحصل على تعويضات مناسبة من الدولة، لأنها هي التي تقاعست في وقف عمليات حفر الأنفاق مما أدى إلى تهدم منازلنا».
كان المشهد حول منزل «عواد» يكتنفه الدمار، منازل سقطت بالفعل وأخرى على وشك السقوط على من فيها، إلا أن ما يلفت النظر هو ذلك الرجل الأربعينى «أيمن فارس» الذى اصطحبنا لمشاهدة منزله، كان المنزل يبدو مشيداً على أحدث طراز، إلا أنه سقط قبل أن يسكنه أحد، يقول أيمن «بنيت هذا المنزل منذ عام، وبلغت تكلفة بنائه أكثر من 250 ألف جنيه، وقمت بتشطيبه بأجود الخامات، وكنت أستعد لفرشه تمهيداً لقدوم الأسرة للإقامة به، إلا أننى استيقظت في يوم مشؤوم، ووجدت المنزل منهاراً رأساً على عقب، ولحسن حظى أننى لم أكن متواجداً به لحظة انهياره».
وتابع «فارس»: اكتشفت أن ثلاثة أنفاق تمر من تحت المنزل، ولم يستطع مهندس الإنشاء اكتشافها، لأنه تم حفرها على أعماق كبيرة بلغت أكثر من 25 متراً، والمنازل هنا تسقط وتتصدع إما نتيجة حفر الأنفاق، أو نتيجة قصف إسرائيل الشريط الحدودى من الجهة الفلسطينية بقنابل ارتجاجية ضخمة بغرض هدم الأنفاق، والدولة لا تنظر إلينا، وسنقيم دعاوى قضائية للمطالبة بتعويضات مادية».
وأمام منزله بحي «الصرصورية» كان يقف «معاذ حامد»، وبدأ في الحديث قائلاً: «الجيش يهدم الأنفاق عن طريق غمرها بالمياة الجوفية، وهذه المياه تملأ الأنفاق التى تمر أسفل منازلنا، مما يعرض المنازل للانهيارات والتصدعات، ويجب وقف عملية هدم الأنفاق بهذه الطريقة، وعلى الجيش أن يبحث عن طريقة بديلة».
وأضاف: «إذا مرت الأنفاق أسفل منازلنا، فإنها تتهدم، وإذا حاول الجيش هدم هذه الأنفاق بالمياة فإنها تسقط، ونصبح نحن سكان رفح ضحية ممارسات الفلسطينيين، الذين لا يعبأون بحجم الدمار الذى تسببه لنا هذه الأنفاق». الطريف أنه عندما كنا نسير بمحازاة الشريط الحدودى المصرى مع قطاع غزة، كانت المسافة التى تفصلنا عنه بضعة مترات قليلة، بدت أجزاء على مسافات متقطعة من السور الخرسانى منهارة بطريقة تثير الغضب، فالأنفاق ابتلعت السور الخرسانى الذى يعد فاصلاً بين الأراضي المصرية وقطاع غزة. أحد ضباط حرس الحدود قال «إحنا زهقنا من كتر بناء السور ده كل ما يتهدم بسبب ابتلاع الأنفاق له، يومياً نشاهد أجزاء تسقط من السور، ونعمل على بنائها مرة أخرى».
«الأقماع».. وسيلة الإنقاذ لا شك أن عملية الإغراق بالمياه هى العملية الأكثر تأثيراً على هذه الأنفاق، فطريقة الهدم بالحفارات لم تحقق نتائج طيبة، ويفتحها العاملون في مجال التهريب بمجرد إغلاقها، كما أن زرع القطع الحديدية الضخمة في الأرض لم يحقق نتائج مثمرة لأنهم يقصونها، إلا أن عملية الغمر بالمياه نجحت بالفعل في تدمير عدد كبير من الأنفاق، وهو أمر فطن إليه العاملون في الأنفاق من الجانب الفلسطينى، حسب حديث العاملين في الأنفاق. يقول أحمد عبيد، أحد أصحاب هذه الأنفاق، الحصار الإسرائيلى لقطاع غزة جعل الشعب الفلسطينى في هذا القطاع مبدعين ومبتكرين إلى درجة عالية للتغلب على هذا الحصار، فلم تعد هناك أى مشكلة تواجههم، ويفشلون في حلها، فهم يقومون بسحب المياه من الأنفاق بطريقة بسيطة وسهلة للغاية، بعدما أيقنوا أن المياه تمثل خطراً حقيقياً عليها. وتتمثل طريقة سحب المياه في وجود أقماع بلاستيكية أو حديدية كبيرة بمساحات وأحجام محددة بطريقة هندسية، تثبت هذه الأقماع في الأنفاق بعد إنشاء حفرة في الأرض بحجم هذه الأقماع، بحيث تمثل مركزاً لتجمع المياه، وتوصل بهذه الأقماع مواتير بأحجام مختلفة حسب حجم كل نفق، تسحب المياه بمجرد وصولها إلى النفق عن طريق هذه الأقماع.
وأكد مصدر عسكرى لـ«المصرى اليوم» أن عملية سحب المياه بالمواتير قللت إلى حد ما من تأثير المياه على الأنفاق، مشيراً إلى أن القوات المسلحة تدرس هذه المشكلة حالياً لمحاولة إيجاد حل لها، أو إيجاد بديل لعملية الهدم عن طريق الغمر بالمياه. ونفي المصدر احتمالية لجوء القوات المسلحة إلى استخدام قنابل ارتجاجية لتدمير هذه الأنفاق، وأكد أن غالبية هذه الأنفاق تقع داخل المبانى وأسفلها ومن المستحيل التعامل معها بهذا الشكل، حفاظاً على أرواح من داخلها، وحماية للمساكن. فيما وقف «على ملح»، أحد سكان مدينة رفح، في حسرة، وهو يشير إلى فتحة أحد الأنفاق التى تقع بجوار منزله قائلاً «الأنفاق أصبحت حرباً بين الجيش المصرى والفلسطينيين، الجيش يهدم وهم يعيدون فتحها مرة أخرى، يغمر بالمياة هم يسحبونها بالمواتير، لابد للجيش أن يستخدم قنابل ارتجاجية لـ(خلخلة) الأنفاق، لأن كل الطرق الأخرى غير مجدية».
تجارة السراديب: 100 «شيكل» لعبور الفرد.. والبضائع حسب النوع
يعيش أهالى سيناء في ظروف اقتصادية صعبة، فالتنمية لم تعرف طريقها بعد إلى هذه البقعة من أرض مصر، حال كثير من الأماكن الأخرى في مصر، ويتخذ غالبية سكان منطقة رفح الأنفاق مصدراً للدخل، فمنهم من يمتلك نفقاً، وكثيرون يعملون بأجر يومى في حمل البضائع وتفريغها.
تزداد نسبة البطالة في رفح بشكل كبير، إلا أن اللافت وجود تناقض كبير بين الظروف الاقتصادية والظروف المعيشية، فالسيارات الحديثة أبرز ما يميز السكان، وقد تجد في منزل واحد أكثر من سيارة، وكثير من المنازل رغم أنها تهدمت وتصدعت إلا أنه يبدو عليها الفخامة. يقول «عادل عليوة»، أحد السكان «الوضع الاقتصادى بالنسبة للسكان هنا صعب للغاية، فالمصدر الوحيد للدخل بالنسبة لكثير من الأفراد هو الأنفاق، يوجد من يمتلك الأنفاق، ومن يعمل بها، ومن الطبيعى أن يكون مالك النفق أغنى بكثير من العمال القائمين عليه». وأضاف «لا توجد فرص عمل في سيناء، الكل يعيش بمجهوده الذاتى خارج إطار الدائرة الحكومية، والمقاهى أصبحت أكثر من المنازل حيث يجلس الشباب العاطلون، يجب على الدولة أن تفكر في إيجاد فرص عمل بديلة قبل غلق الأنفاق».
من جانبه قال «محمود رمضان»، صاحب أحد الأنفاق «يعمل معى في النفق 14 عاملاً في حمل البضائع وتنفيذ مهمة عبورها للجانب الآخر، يتقاضى كل عامل منهم من 50 إلى مائة جنيه يومياً- حسب طبيعة الشغل- وهؤلاء العمال يفتحون بيوتاً، ومنهم من جاء من مدن الصعيد للعمل في الأنفاق باعتبارها مصدراً للرزق، يعمل في الأنفاق مئات الأشخاص».
وأضاف «تختلف أسعار عبور الأفراد عن البضائع، وكذلك البضائع تختلف هى الأخرى في أسعارها، فعبور المواد الغذائية يختلف بالتأكيد عن عبور السيارات، ونقوم بإجراء تنسيق مسبق مع الجانب الفلسطينى في الطرف الآخر لكى يسمح له بالعبور».
وتابع «بعدما أصبح المعبر مفتوحاً طوال أيام الأسبوع بعد الحرب الأخيرة على غزة، قل الضغط كثيراً على الأنفاق، وانخفضت أسعار عبور الأفراد والبضائع، أصبح الفرد يعبر بمائة (شيكل) بعدما كان يعبر بمائتين، بما يعنى أنه انخفض للنصف، وكذلك انخفض سعر عبور البضائع ولكن ليس بهذا الشكل الكبير نظراً لأن المعبر لا يسمح بعبور كثير من البضائع الاستراتيجية».
من جانبه قال الدكتور أحمد جلال، الخبير الاقتصادى: «على الدولة أن تسرع بعملية التنمية في سيناء على مستويين، الأجل القصير من خلال عمل نظام تشغيل مؤقت يستوعب العاطلين عن العمل بعد غلق الأنفاق، والمستوى البعيد، من خلال تبنى سياسة شاملة لتنمية كل شبه جزيرة سيناء».
حرب طويلة الأجل لحصار «ثغرة» البوابة الشمالية
يعمل ضباط القوات المسلحة ومهندسوها على هدم الأنفاق بكل جدية ونشاط وشجاعة، غير عابئين بالمخاطر التى تهددهم من وقت لآخر، فالمنطقة التى يعملون بها تعتبر منطقة غير آمنة، لأن بها مهربين لديهم أسلحة متعددة، يمكنهم التعدى بها على هؤلاء الضباط والجنود انتقاماً منهم لقيامهم بهدم الأنفاق. إلا أن جميع الضباط يعتبرون عملية هدم الأنفاق، رد اعتبار أولى على عملية استشهاد 16 جندياً في رفح شهر أغسطس الماضى رغم عدم إعلان نتائج التحقيقات بشكل رسمى حتى الآن.
في الشريط الحدودى، تقابلنا مع مجموعة من الضباط الصغار، الذين يعملون تحت قيادة العقيد السيد صديق، قائد الفوج الأول بقوات حرس الحدود، يقبع هذا الرجل في مكتبه الكائن بجوار معبر رفح الحدودى مع قطاع غزة، يتابع عملية الهدم لحظة بلحظة، يقول أحد الضباط، رفض ذكر اسمه، إنهم ماضون بإصرار وشجاعة في هدم هذه الأنفاق لأنها تتسبب في مشكلات أمنية جسيمة بالنسبة لسيناء، وتشكل خطراً على قوات الجيش المتمركزة في هذه البقعة، وأشار إلى أن ضباط الجيش المصرى لا يكنون أى ضغائن أو كراهية للإخوة الفلسطينيين في قطاع غزة، بل يساندونهم في موقفهم من مقاومة أى عدوان إسرائيلى عليهم.
وأضاف أن عملية هدم الأنفاق تواجه بعض الصعوبات تتمثل في رد الفعل الفلسطينى السريع على أى نفق يتم هدمه، حيث ينشئون بديلاً له بسرعة كبيرة أو يعيدون فتح النفق المهدوم وترميمه، وأشار إلى أن أن قرار القيادة العامة للقوات المسلحة بهدم الأنفاق لا رجعة فيه، وأن الخطة الزمنية ممتدة ولن تتوقف فإذا تم إنشاء نفق سيتم هدمه ومعاقبة من يقف وراءه طبقاً للقانون.
في مدينة رفح، وفي أحد مكاتب الجهات السيادية تقابلنا مع أحد الضباط المسؤولين عن جمع المعلومات المتعلقة بهدم الأنفاق، قال إن عملية غمر الأنفاق بالمياه ستستمر لفترة طويلة، وحذر الأهالى الذين يقيمون فتحات للأنفاق داخل منازلهم من تهدم هذه المنازل نتيجة المياه، مؤكداً أن الأهالى من واجبهم إغلاق هذه الأنفاق بأنفسهم حتى لا يتضرروا من المياه التى ستصل إلى هذه البيوت، وأكد الضابط أن عدد الأنفاق التى تربط سيناء بقطاع غزة يبلغ حوالى 700 نفق أو يزيد قليلاً.
وعن تعامل القيادة السياسية مع عمليات هدم الأنفاق قال الضابط إن القيادة السياسية توافق على هدم الأنفاق مضطرة، لأنها لا تجرؤ على مطالبة الجيش بوقف عمليات الهدم، وأضاف «القيادة السياسية بتتعامل مع عمليات هدم الأنفاق بطريقة (إقلب وقول اللى بعده)، إنت كنت عايزنى في إيه غير الأنفاق». بملامح بها جدية وصرامة، قال الضابط إن القوات المسلحة لم تستخدم أى قنابل غاز محرمة لمطاردة العاملين في الأنفاق كما يردد البعض، مؤكداً على أن الجيش لا يستخدم سوى الوسائل المشروعة حفاظاً على أرواح العاملين في الأنفاق، وكل ما تريده القوات المسلحة هو الهدم فقط وإحكام السيطرة على الجهة الشرقية».
وتابع: «ضباط الجيش العاملون في منطقة الحدود مع قطاع غزة، لديهم قناعة كاملة بأن عدداً من منفذى عملية الهجوم على الجنود المصريين بكمين (الحرية) في شهر أغسطس الماضى، دخلوا مصر عن طريق هذه الأنفاق».
من جانبه، قال اللواء محمود خلف، الخبير العسكرى، إن المادة 193 من الدستور الجديد تنص على أن القوات المسلحة مهمتها حفظ أمن وسلامة البلاد، مشيراً إلى أن عملية غلق الأنفاق خطوة مهمة للحفاظ على أمن البلاد.
خريطة مناطق التهريب: «الصرصورية» وبوابة «صلاح الدين» و«البراهمة»
تُوزع الأنفاق برفح على ثلاث مناطق، الأولى هى «الصرصورية»، وهى منطقة أنفاق مخصصة لعبور السلع والبضائع، وتم تجهيز الأنفاق بها من الناحية الفنية على هذا الأساس، والثانية هى منطقة «بوابة صلاح الدين»، والثالثة هى منطقة «البراهمة»، والأخيرتان مجهزتان لعبور الأفراد، بالإضافة إلى وجود أنفاق عبور مواد البناء التى تم تجهيزها بمواسير تتحمل الضغط، وفي الجانب الفلسطينى توجد مواتير قوية تسحب مواد البناء عن طريق «الشفط». في منطقة «الصرصورية» حيث عبور السلع والبضائع، يتم تجهيز الأنفاق بالآلات لنقل البضائع داخل النفق من بينها عربة تسير على قضيب، وغالباً ما تكون حالة نفق البضائع غير جيدة بالمقارنة بنفق عبور الأفراد، ففي الحالة الثانية يتم تجهيز النفق بوسائل الإضاءة الجيدة، كما توجد وسيلة نقل في النفق من بينها «التوك توك»، وفي بعض الأحيان يكون النفق مكيفاً. يعد السولار والبنزين، أكثر السلع المطلوبة في قطاع غزة، رغم وجود المنحة القطرية من الوقود، التى تدخل قطاع غزة من معبر «كرم أبوسالم» الحدودي مع إسرائيل بشكل منتظم تحت إشراف الجانب الإسرائيلى، وتركز قوات الجيش مجهوداتها كافة في مكافحة تهريب البنزين والسولار للمساهمة في حل الأزمة التى تعانى منها مصر مؤخراً في هذا المجال.
«السلع التى تعبر ليست بالضرورة أن تكون سلعاً أساسية وحيوية بالنسبة للفلسطينيين».. هكذا يقول «خالد محمد»، أحد العاملين في الأنفاق، مضيفاً «منطقة الصرصورية يعبر منها سلع كثيرة من بينها المواد الغذائية بكافة أنواعها (لحوم- جبن- شيبسى- خضراوات- سكر- شاى) بالإضافة إلى جميع أنواع الملابس من أقمشة وأحذية، فضلاً على عدد من السلع الأخرى «غير الأساسية» من بينها السجائر بجميع أنواعها وجميع الأدخنة الأخرى».
ويتابع خالد «ليست كل السلع التى تعبر مشروعة، فهناك كثير من المواد التى تعد جريمة مثل المخدرات، إلا أن أكثر مواد المخدرات التى تعبر لقطاع غزة هو (الحشيش) الذى يزداد الطلب عليه بشكل تدريجى». كل أنواع السلع السابقة تعد مقبولة، باستثناء المخدرات، الذى ربما يرى البعض أن عبوره للجانب الفلسطينى لا يمثل تهديداً للأمن القومى المصرى، إلا أن المشكلة الكبرى تتمثل في عبور الأسلحة من هذه المنطقة خلال الأنفاق.
يقول الشيخ «عواد أبوجراد»، أحد شيوخ القبائل بمنطقة رفح «لا أعتقد أن عبور بعض السلع الغذائية للجانب الفلسطينى يمثل تهديداً للأمن المصرى بالدرجة التى يمثلها عبور الأسلحة، فمن خلال هذه الأنفاق تعبر كميات كبيرة من الأسلحة إلى قطاع غزة، بزعم دعم المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلى، رغم أن أول حل لإنهاء الاحتلال والتصدى له، هو إنهاء حالة الانقسام التى يعانى منها أبناء الشعب الفلسطينى، ولا يمكن أن يسمح أبناء سيناء بإدارة الحرب مع إسرائيل من داخل سيناء».
ليست هذه المواد فقط التى يتم تهريبها عن طريق الأنفاق، بل تمتد البضائع المهربة، إلى السيارات والمواشى. يقول عيسى حمدان، أحد العاملين في الأنفاق «غالبية السيارات التى سُرقت وقت الثورة عبرت من أنفاق مخصصة لعبور السيارات إلى قطاع غزة، وهناك وسطاء تابعين للمهربون الفلسطينيين موجودون بسيناء يشترون هذه السيارات بأسعار زهيدة للغاية، لأنها دون أوراق رسمية صحيحة، حتى بعض سيارات الشرطة التى تم الاستيلاء عليها وقت الثورة عبرت إلى قطاع غزة».
وأضاف عندما توقفت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة في نوفمبر الماضى كانت توجد في رفح معارض لبيع «الموتوسيكلات»، وبمجرد انتهاء الحرب، عبرت كل هذه الموتوسيكلات إلى قطاع غزة عبر الأنفاق، بالإضافة إلى عبور أعداد من رؤوس الماشية والأغنام إلى القطاع عن طريق مهربين متخصصين في هذا المجال».
«الساتر الترابى».. سلاح «التدمير الشامل»
يبلغ طول الشريط الحدودي مع قطاع غزة حوالى 14 كيلو متراً، تبدأ من معبر كرم أبوسالم الحدودي بين مصر وإسرائيل وحتى ساحل البحر المتوسط، على طول هذه المسافة تتواجد قوات حرس الحدود المصرية بكثافة عبر نقاط وأبراج المراقبة، ويقع معبر رفح الحدودي مع قطاع غزة تقريباً في منتصف هذه المسافة، الأراضى التى تقع على طول الحدود المصرية مع قطاع غزة، غير مأهولة بالسكان من الجانبين بإستثناء المنطقة السكنية التى تقع بها مدينتا رفح المصرية والفلسطينية على كلا الجانبين، تتركز معظم الأنفاق في هذه المنطقة السكنية، لأسباب أمنية يضعها أصحاب هذه الأنفاق والمهربين من الجانبين في اعتباراتهم، حيث إن النفق غالباً ما يبدأ من داخل أحد المنازل في مدينة رفح الفلسطينية وينتهى داخل أحد المنازل في مدينة رفح المصرية، لكى لا تستطيع أعين الأجهزة الأمنية أن ترصده، خصوصاً القوات المسلحة التى تعتبر مسؤولة بشكل كامل عن تأمين مدينة رفح، فلا وجود لقوات الشرطة بها، في مدينة رفح يوجد أكثر من 700 نفق وفقاً لتقديرات ضباط القوات المسلحة العاملين في هدم الأنفاق، هذه المسافة من الشريط الحدودي تقع تحت قيادة الفوج الأول من قوات حرس الحدود،
وعند منطقة «الصرصورية» تقع السرية الثانية التابعة للفوج الأول بقيادة ضابط برتبة رائد، تعتبر هذه السرية هى محور الارتكاز للقوات العاملة في هدم الأنفاق، حيث توجد آلات الحفر، ومواتير المياه التى تغرق الأنفاق. في حقيقة الأمر تبدو فكرة غمر الأنفاق بالمياه جيدة للغاية، وتقوم الفكرة على حفر بئر عميقة بعمق 32 متراً في باطن الأرض، وتخرج من هذه البئر ماسورة ومع نقطة التقاء سطح الأرض بهذه الماسورة يوجد موتور لسحب المياه من باطن الأرض، وهناك ماسورة أخرى موصلة من هذا الموتور إلى خزان ضخم تخزن به هذه المياه، وتقوم المعدات التابعة لسلاح المهندسين بالقوات المسلحة بحفر منطقة عميقة تمتد بطول الشريط الحدودي مع قطاع غزة وبعمق كبير يصل إلى أنفاق التهريب، ويسمى الجيش هذه العملية بـ«الساتر الترابى»، هناك ماسورة أخرى تخرج من هذا الخزان إلى المجرى الذى حفرته القوات المسلحة وهو أشبه بترعة صغيرة تربط كل الأنفاق، وترمى هذه الماسورة المياه في هذه الترعة ومن ثم تغمر المياه عدداً كبيراً من الأنفاق، وللعلم فإن هذه المياه «جوفية» كما يؤكد الضابط المسؤول عن إدارة هذه العملية وليست مياه مجار، وبعد غمر الأنفاق بالمياه يبدأ انهيارها بشكل سريع نظراً لأن التربة رملية.
«في الغالب لا نترك النفق الذى نغمره بالمياه حتى نتأكد من انهياره بشكل كامل»، هكذا قال ضابط بـ«جهة سيادية» يشرف على عملية الهدم، مضيفاً أن سرعة استجابة الأنفاق للمياه تتباين من نفق لآخر حسب تجهيزات كل نفق. ولم يكتف الجيش بعملية الهدم بالغمر بالمياه فقط، بل زرع قطعاً حديدية من الصلب في باطن الأرض على أعماق كبيرة وتفصلها مسافات صغيرة لا تتعدى متراً واحداً، لكى تكون كبوابات حديدية في باطن الأرض تمنع مرور أى شخص من الأنفاق، ولكن وفقاً لتأكيدات مصدر عسكرى، فإن هذه العملية لم تحقق نتائج مثمرة لأن الفلسطينيين يقومون بقطع هذه القطع الحديدية من باطن الأرض بواسطة ماكينات قطع الحديد وبالتالى تصبح بلا جدوى. في داخل الكتل السكنية تقوم حفارات ضخمة تابعة لسلاح المهندسين بهدم الأنفاق عن طريق الحفر حتى الوصول لها ووضع الرمال بها وإغلاقها إلا أن هذه الفكرة أيضاً لم تحقق نتائج طيبة نظراً لقيام الفلسطينيين بفتح هذه الأنفاق مرة أخرى بعد غلقها بساعات معدودة، وفكرة هدم الأنفاق بالحفر تعتبر أقدم فكرة لدى القوات المسلحة.