رغم أن كتابها «صورة المثقف فى الرواية الجديدة»، يرصد تلك الصورة فى روايات ما يمكن تسميته بجيل التسعينيات، فإن الناقدة والروائية هويدا صالح تضع يدها من خلال هذا العمل، على أول أسباب انحسار دور المثقف التقليدى، الذى ساهم فى صناعة الدولة الحديثة منذ نشأتها على يد محمد على، سواء بتنوير «أهلها»، أو بتبرير «تنوير» أهلها «بالقوة»، أو وضع «تنظيرات» مقنعة لخطى الحاكم.
فى 2013، تبدو تلك الدولة، بمشروعها «الحداثى»، جثة ميتة، تسير فى الأسواق، وتأكل الطعام، مدعية أنها حية، بينما تنحنى من وقت إلى آخر، لتلتقط أحد أعضائها المفككة.
يبدو كاتب التسعينيات، فى دراسة هويدا صالح، شخصاً ينجو بنفسه من الخراب القادم، بعد أن تم تهميش دوره وتدجينه، محاولا إشهار هويته كفرد فى مواجهة سلطة غاشمة، لا تراه إلا كأداة تمرر به سلطتها، لتصبح تلك الذات محور العالم، وهى الفكرة التى سيتم التأكيد عليها حتى بعد انتهاء عقد التسعينيات، رغم انفتاح طرق التعبير، عقب انتهاء هذا العقد.
تؤكد «هويدا» هذا الملمح فى طرائق السرد، التى تتمرد على إرث الكتابة التقليدى، سواء بالاستعانة بالأصوات المتعددة فى مقابل الصوت الواحد المفروض من «السلطة»، كما فى رواية «كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد» لسعيد نوح، بل والتمرد على فكرة الحدث المتنامى والشخصيات، لصالح التجريب، وكسر الإيهام بين المتخيل والسيرة الذاتية للكاتب، والتى قد تضع الكاتب باسمه كبطل، فى سيرة متوهمة، قد تقنع قارئها أنها السيرة الحقيقية، كمصطفى ذكرى فى روايته «الخوف يأكل الروح».
يبدو مصطفى ذكرى، التمثيل الأوضح لفكرة هويدا، فبديله عن الأيديولوجيات الكبرى، تماهيه وغوصه كمثقف كما بطل روايته «منكفئ على ذاته» ومشغول بالتعامل مع الأدبيات العالمية، ولو «فى محاكاة ساخرة لها»، المثقف المغرم بسلطة التفاصيل، حد الهوس، كمثقفه، التفاصيل التى تشغله عن لعب دوره «التنويرى» فى الدولة التى تفسد رويداً رويداً.
نحن أمام مثقف عدمى، غير عابئ إلا بالهامشى، رداً على غياب «الجماعة وقضايا الوطن الكبرى السياسية والاجتماعية، والتاريخية محط اهتمامه».
فى رواية «فوق الحياة قليلا» لسيد الوكيل، ترصد «هويدا» استخدام تقنية المحاكاة الساخرة، أحد الأشكال الفنية التى تنتمى إلى ما بعد الحداثة، وتهدف إلى «محاولات تكسير وقلقلة الواقع»، وهى تقنية ملائمة فى إزاحة الصورة النمطية للمثقف والتى لم تعد حقيقية وإن كانت راسخة فى الأذهان بوصفها الحقيقة، فيحاكى «الوكيل»، المثقف فى أحد مستوياته (شاعر) لينتقد من خلال تلك التقنية المقولات الكبرى، ومجتمع المثقفين القديم والبائس، الذى ورث فكرة «البرج العاجى» وأنه «قائد لجماهير» لم تعد تراه فى الواقع، من خلال فضح التناقض وبؤس الفكرة القديمة، تتضح لنا وضع المثقف الحقيقى وصورته الآنية، التى لم تعد «مقدسة أو نورانية».
مثقف سيد الوكيل، الذى فضحه، مازال الحالة الأكثر إثارة للشفقة فى 2013، فهو لايزال يحارب من أجل تثبيت اللحظة عند أربعينيات أو ستينيات القرن الماضى، لا يعترف بموت أبطاله من الكتاب، بل يؤسس لفكرة أنهم صعدوا وسيعودون يوما، ولو تلبسوا روحه.
فى «قميص وردى فارغ» لنورا أمين، يرتفع دور المثقف الناقد، الرافض لقيم المجتمع السائدة، دون أن يعتقد أن المجتمع ينتظره كنبى، من خلال نموذج لمثقف يرفض الأفكار السائدة عن النساء، والمجتمع الذى يقمع المرأة بانتظام وثبات أشبه بخطة عامة للحياة، بشكل يدعو للتأمل.
الكتابة، هنا، عند «نورا» تتحول لفعل مقاوم، يجعل من الهم الذاتى هماً عاماً.
فى روايته، المهمة «بناء الخطأ الرومانسى» والتى صودرت وقت صدورها فيما عرف بأزمة الروايات الثلاث، ينشغل ياسر شعبان بفضح ثقل «الإرث الذى ورثه من كتاب الستينيات، أو كما تذكر هويدا: «جيل التسعينيات، هو الجيل الذى تشكل على المفاهيم، التى سادت فى جيل الستينيات الذى تشكل عاطفياً وقومياً فى قالب رومانسى».
كسر «شعبان» لعدد من التابوهات والخرافات الثقافية والاجتماعية فى روايته، إحدى تلك الوسائل للخروج من عتبه جيل الستينيات، الذى تحولت أفكاره الرومانسية إلى أكليشيهات مفرغة من المعنى.
فى 2013، لا يمكن إغفال أن الروايات التى صدرت فى التسعينيات، لم تمارس عملا «تنبؤيا» بانهيار المعانى القديمة، وأساليب استبداد سلطة (بمعناها الواسع)، لكنها كأى كتابة حقيقية قدمت قراءة مخلصة للحظة، قراءة تبدو طليعية ومتقدمة بخطوة عما كان المجتمع يرغب فى سماعه أو تصديقه وقتها.
استقصاء «هويدا» لصورة المثقف فى روايات تلك الفترة، هو فى طريقة التحولات الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية التى طرأت على المجتمعات العربية، فى أنظمة كانت تسير نحو التعفن، الأنظمة التى لاتزال فى 2013، تدعى أنها مازالت تتتنفس وتحيا، كأن الموت لم يمر عليها بعد.
الكتاب: صورة المثقف فى الرواية الجديدة
تأليف: هويدا صالح
الناشر: رؤية
2013