دفعه العوز للعمل في منشأة خاصة، دون أن يدرى أن قصور قانون العمل وضعف الرقابة الحكومية وتعقيد إجراءات التقاضي، ستكون سبباً في ضياع حقوقه.
هاني محمد عويس، فقد أطراف أصابع يده اليمني، بعدما قصفتها قواطع ماكينة الطحن (إكليز)، أثناء تأدية عمله بمطحن السلام بالمنطقة الصناعية بكوم أوشيم التابعة لمحافظة الفيوم، ولم يسع «عويس» لخوض نزاع قضائي مع صاحب العمل حفاظا على مصدر رزقه الوحيد، حتى محضر الشرطة الذي قيد تحت رقم 349 لسنة 2004 في مستشفي طامية المركزى لم يكن سوى إجراء تتّبعه المستشفيات الحكومية لدى وصول إصابات إليها، واكتفي «عويس» في أقواله بأنه أصيب أثناء العمل، ولم يستكمل الإجراءات القانونية، والسبب: «خايف يقطعوا عيشي».
بعد شهر على إصابته، عاد «عويس» إلى عمله بوظيفة فرد أمن على البوابة الرئيسية دون عقد يحفظ حقوقه ويحدد واجباته، واستكمل علاجه على مدى عام دفع خلاله 6 آلاف جنيه، استدان معظمها من أفراد أسرته.
وعندما لم يف صاحب العمل بوعوده، ورفض تحرير عقد له والتأمين عليه، تقدّم بشكوى متأخرة إلى مكتب التأمينات بعد عامين من إصابته، وبفحصها ثبت صحتها وتم التأمين عليه برقم (36713593) على شركة السلام للطحن، ففصله صاحب العمل.
مصير «عويس» لا يختلف عن 47 ألف عامل فصلهم أصحاب الأعمال تعسفيا، دون موافقة المحكمة العمالية، بحسب جبالي محمد المراغي، رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، منهم 12 ألفاً عقب الثورة.
يقول «المراغي» إن دور الاتحاد يثتصر على مخاطبة المنشآت الخاصة، وتشكيل لجان لفض منازعات بتسويات ودية، لكنها غير ملزمة لصاحب العمل بإعادة العامل إلى عمله، ويستند في النهاية إلى القانون الذي يضيّع حقوق العمال في مصر ويقف حياله الاتحاد مشلول الأيدي.
مفتشو مكاتب العمل، رصدوا خلال الشهور الستة الأخيرة 70 ألفاً و449 مخالفة لعمال غير مؤمن عليهم من إجمالي 18 مليون عامل يعملون في منشآت خاصة، وفق إحصائيات وزارة القوى العاملة.
مكتب عمل «كوم أوشيم»، تعامل مع 9 مخالفات عمالية، تنوعت بين عدم تحرير عقود أو تسجيلها في الضمان الاجتماعي، وعدم وجود ملفات لبعضهم، ارتكبها مسؤولو مطحن السلام بحق 9 من 90 عاملا في المطحن.
حُرّرت بالمخالفات محاضر أحيلت لنيابة طامية، وقضت فيها المحكمة بتغريم الإدارة (1100 جنيه)، تُسدد لخزانة الدولة في القضيتين 6636 و6637 لسنة 2009، وتبيّن عدم تنفيذ الحكم، حسبما تشير دفاتر وسجلات (قسم متابعة تنفيذ الأحكام في مكتب عمل كوم أوشيم).
دعوى «عويس» أمام محكمة الفيوم الابتدائية، قُيدت تحت رقم 27 لسنة 2006، وتضمنت تقرير خبير وزارة العدل، الذي أفاد بأنه كان يعمل منذ 2004 بأجر شهري 98 جنيهاً، بناءً على الأجر الأساسي الذي اعتمد لدى تأمينه بالضمان، وتقرير اللجنة المختصة للفصل في المنازعات الفردية العمالية، الذي أفاد بأن المشتكي فُصل تعسفيا.
ومثل «عويس» كثيرون، يخشون حتى الإفصاح عن أسمائهم ويرددون السبب نفسه: «الخوف على أكل العيش».
بالطرق الودية، تمكن موظف في إحدى المنشآت الخاصة من العودة إلى عمله بعد رفض المحكمة العمالية دعواه التي رفعها أمامها بطلب إعادته إلى عمله.
يقول الموظف - الذي طلب عدم ذكر اسمه تجنبا لحدوث مشاكل مع إدارة الشركة - إنه أمضى 11 عاما في عمله منذ 1 يوليو 2000 حتى 23 مارس 2011، تاريخ صدور قرار فصله «التعسفي»، بمعنى أن الشركة لم تتخذ الإجراءات القانونية لدى فصله، بما في ذلك الفرصة لسماع دفاعه فيما هو منسوب إليه من إهمال أثناء العمل، كما لم تحله إلى المحكمة العمالية المشار إليها في المادة 71 من قانون العمل، المختصة دون غيرها بتوقيع جزاء الفصل على العامل إذا ارتأت أن صاحب العمل محق في طلب الفصل.
فسرت المحكمة رفضها لطلب الموظف، في حيثيات حكمها بأن «من المستقر عليه خلو القانون من نص يجيز إلغاء قرار إنهاء خدمة العامل وإعادته لعمله ومؤداه أن القرار الصادر بإنهاء الخدمة أثره انتهاء الرابطة العقدية وزوال الالتزام بدفع الأجر ولو اتسم بالتعسف».
أما «عويس» فلم يستسلم، إذ تم نقل دعواه إلى محكمة عمالية مختصة تحت رقم 494 لسنة 2008، وقضت المحكمة العمالية بإلزام صاحب العمل بتعويضه 1000 جنيه، واستندت في حكمها الصادر بتاريخ 27 سبتمبر 2009 إلى المادة 122 من قانون العمل: «ألا يقل التعويض عن أجر شهرين من الأجر الشامل عن كل سنة من سنوات الخدمة»، لكنها رفضت طلبه بالتعويض عن إصابته، لأنه «لم يسند إصابته لسبب يرجع لصاحب العمل في محضر الشرطة رقم 349 لسنة 2004، وترتب عليه عدم ثبوت عناصر المسؤولية المدنية في حق المدعى عليه».
من جانبه، ينفي عزوز أحمد عوض، رئيس مجلس إدارة المطحن، مسؤوليته عن إصابة العامل، ويؤكد أن القانون كان الفيصل بينهما مذكراً بأن المحكمة قضت له بتعويض مالي، وينفي علمه بوجود 9 مخالفات ضد منشأته، رغم أن كاتب التحقيق زوده بأرقامها.
ويرجع «عوض» عدم تحرير عقد عمل لـ«عويس» والتأمين عليه، لكونه من العمالة غير المنتظمة التي تعمل بأجر يومي في المطحن، رغم أن مطحن السلام لم يتعاقد مع وحدة رعاية وتشغيل العمالة غير المنتظمة بمديرية القوى العاملة التابع لها طوال فترة عمل «عويس» فيه، ولم يبلغ اسمه بالوحدة، بحسب مصدر مسؤول في المديرية.
ويؤكد مدير الوحدة محمود عبد العزيز، أن قرارات وزارة القوى العاملة في 2007 قصرت حالات تشغيل عمالة غير منتظمة على قطاعي المقاولات والزراعة الموسميين، والمناجم والمحاجر.
ويدفع صاحب المطحن بأن «عويس أصيب ليلا في غير ورديته الرسمية، وأنه لم يطلب منه الصعود إلى الآلة التي تسببت في إصابته»، لافتاً إلى أنه تحمل «نفقات علاجه من باب الصدقة وليس كحق للعامل».
وبينما يرفض ذكر قيمة ما دفعه، «حتى لا يضيع الثواب عند الله»، بحسب قوله، يؤكد صاحب العمل أنه وفّر «فرصة عمل أخرى له، لكنه لم يؤدها على الوجه المطلوب منه».
المستشار محمد عبدالعزيز البنا، رئيس محكمة الاستئناف العالي بمحكمة استئناف طنطا، يرى أن «قانون العمل يشوبه قصور تشريعي، لأن المشرع أمسك عن النص في القانون على أحقية المحكمة في إعادة العامل إلى العمل، إذا فُصل تعسفيا مما يؤدى إلي نزوع بعض أصحاب الأعمال إلى فصل العمال في غير الحالات التي نص عليها القانون».
ويؤكد «البنا» أن محكمة النقض استقرت على ذلك في أحكامها، مشيراً إلى أن في ذلك إجحافا بالعامل الذي يتم فصله فصلاً باطلاً، تستند فيه جهة العمل إلى أسباب قد يقضي ببطلانها، ويدلل على ذلك بفشل العامل في اللجوء للقضاء رداً على قرار فصله «بسبب حصوله على تقدير ضعيف في تقرير الكفاءة السنوي، ولا تستطيع المحكمة أن تقضي له بذلك، بل تكتفي في حكمها بالقضاء له بتعويض مالي يكون هزيلاً في أغلب الأحيان».
حمديمحمد عبد المنعم، يعيش بذراع مدببة، لا فائدة منها، منذ 2005، عندما اختلطت يده التي التقطتها ماكينة التشغيل مع عجينة البسكويت في إحدى المنشآت الخاصة بمنطقة (السادس من أكتوبر) الصناعية.
ورغم تحمل صاحب العمل نفقات علاجه والتأمين عليه عقب إصابته، فإنه لم يحصل على مستحقاته المالية حتى الآن، رغم أنه رفع دعوى قضائية قبل 8 سنوات.
ويشتكي «عبد المنعم» تأجيل النطق بالحكم، واستمرار تأجيل الجلسات منذ 2005، بخلاف نص قانون العمل.
المستشار الدكتور محمد عثمان، رئيس المحكمة الاقتصادية بمحكمة القاهرة، الرئيس الأسبق للمحكمة العمالية، يرفض التعليق على هذه القضية، امتثالاً للوائح الداخلية، لكنّه يرجع «أسباب طول أمد التقاضي في الدعاوى العمالية» إلى بطء الإجراءات لدى إحالة القضايا إلى مكتب الخبراء المختص» هناك
ويشرح «عثمان»: «تعامل الطلبات شأنها شأن أي دعاوى أخرى، ولا يتم العمل فيها إلا بحلول دورها الذي قد يستمر لأكثر من عامين بسب تكدّس القضايا أمام الخبراء وقلّة عددهم من ناحية أخرى».
ويطالب عثمان باستحداث دوائر متخصصة بمحاكم الاستئناف العالي تنظر النزاعات العمالية، تحاشياً لتأخر الفصل فيها، ويرى أن النص في القانون على «جعل مدة الطعن على أحكام محكمة أول درجة 40 يوما يبطئ أيضا إجراءات التقاضي».
ويرى «عثمان» أن هناك شبهة عدم دستورية في المادة 70 من القانون، فيما يخص سقوط حق العامل في اللجوء إلى المحكمة العمالية في حال عدم عرض نزاعه مع صاحب العمل على لجنة تسوية مشتركة خلال 10 أيام من تاريخ نشوب النزاع.
المحامى محمد مدكور، يؤكد هزالة الغرامات في بنود قانون العمل، التي تتراوح بين 50 و100 جنيه بالنسبة لمخالفة المادة 32، حين يمتنع صاحب العمل عن إبرام عقد عمل من 3 نسخ، وعدم إيداع نسخة منه لدى مكتب التأمينات المختص (الضمان الاجتماعي)، وبالتالي تضيع حقوق العامل في التعويض.
ويُشكل ضعف الرقابة عاملاً ثالثاً يساهم في ضياع حقوق العمال إلى جانب قصور التشريع وتعقيدات إجراءات التقاضي، ويقر علاء عوض، المتحدث الرسمى باسم وزارة القوى العاملة بوجود «عجز كبير في مفتشى مكاتب العمل الذين يبلغ عددهم أربعة آلاف مفتش دورهم مراقبة وإعداد تقارير حول مخالفات المنشآت الخاصة البالغ عددها مليونين و346 ألفاً و620 منها 12 ألف منشأة صناعية، ما يعني أن كل مفتش مسؤول عن متابعة 538 منشأة خاصة و4200 عامل.
هذه المعادلة تتسبب في تنفيذ 65% فقط من خطة الوزارة في التفتيش السنوي، بحسب «عوض»، الذي يشير أيضاً إلى ضآلة أعداد مفتشي السلامة والصحة المهنية بمكاتب العمل، وبالتالي لا تحقّق سوى 25% من خطة الوزارة السنوية في الرقابة على أدوات الأمن الصناعي داخل المنشآت الصناعية الخاصة.
ويشدد «عوض» على أن إدارة علاقات العمل في الوزارة – المناط بها إجراء تسويات ودية قبل مرحلة التقاضى- نجحت في تسوية 85% من 8321 شكوى فردية وجماعية تلقتها خلال النصف الثانى من 2012.
أحمد حسن، مدير مكتب العمل بالمنطقة الصناعية بكوم أوشيم، التي تضم 120 منشأة خاصة، ويعمل بها 8 آلاف و500 عامل، مقابل وجود مفتش وحيد، يقول إن دور المكتب يتضمن «تلقى شكاوى العمال واستدعاء صاحب العمل ومسؤول النقابة التابع لها العامل وممثل أصحاب الأعمال بالغرفة التجارية»، ضمن ما يسمى اللجنة الثلاثية، بحيث تبحث الشكوى ودياً، وإن لم تحل المشكلة يعد مكتب العمل تقريرا يثبت فيه حق العامل ويحيله للمحكمة العمالية.
ويؤكد «حسن» أن المكتب رصد مخالفات في 30 منشأة خاصة خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، منها عدم تحرير عقود عمل لـ175 عاملاً، ومخالفات أخرى لعمال لم يؤمن عليهم بلغت 300 حالة.
المفتش الوحيد في المكتب، عبد الله منصور، حرّر مخالفات بحق 86 من 120 منشأة خاصة في 2009، في قضايا أقامها مكتب العمل ضد مسؤولي هذه المنشآت لارتكابهم مخالفات عمالية بحق 2684 عاملاً، تنوعت المخالفات بين فصل تعسفي وعدم تحرير عقود أو غياب التأمين على عمال، وقضت محكمة طامية الجزئية بغرامات هزيلة جداً في أحكام الفصل التعسفي.
العامل محمود فرحات محمود علي، تعرض للفصل من مصنع الوطنية للأعلاف والصابون في 2010، بعد أن تجرأ ورفع دعوى قضائية للحصول على تعويض عقب بتر اثنين من أصابع يده اليمنى.
يقول «فرحات»: «رفعت دعوى قضائية بعد رفض الإدارة المسؤولة تحرير عقد عمل وتعويضي عن الإصابة، وأنتظر الفصل في دعواي المنظورة أمام المحكمة»، منذ سبتمبر 2010، وعمل «فرحات» لمدة 5 أعوام دون عقد أو تأمينات حتى لا يخسر عمله.
المدير المسؤول عن هذه المنشأة، ماهر شعبان، يُرجع عدم تحرير عقد عمل لفرحات لكونه من العمالة غير المنتظمة، كما يرى أن إصابته أثناء العمل نجمت عن «استهتاره».
ومضى إلى القول أنه عرض على «فرحات» عملاً بديلاً يتناسب مع إصابته، لكنه رفض ولجأ للقضاء واستمع لكلام البعض بأن المحكمة ستقضي له بتعويض مالي كبير.
المنشأة التي كان يعمل فيها فرحات غير متعاقدة هي الأخرى مع وحدة العمالة غير المنتظمة بمديرية القوى العاملة، طوال فترة عمل «فرحات»، ولم تبلغ الوحدة باسمه أيضاً، بحسب مصدر مسؤول في المديرية.
الشقيقان أحمد ومحمود عبد المنعم عميرة، كانا يعملان في مصنع لإنتاج البطاطس المقلية المعبأة بالسادس من أكتوبر، استغنى عنهما صاحب العمل بعد عامين، ورغم التأمين عليهما قرر فصلهما بسبب مطالبتهما مع زملائهما بالمصنع برفع أجورهم.
18 مليون عامل في القطاع الخاص قد يواجهون مصير «عويس» الذي اضطرته ظروفه الصعبة إلى عدم المطالبة بحقوقه حتى لا يفقد مصدر رزقه، ولم يكن يدري أن مصيره الشارع بسبب قانون منحاز لأصحاب الأعمال.
تم إنجاز هذا التحقيق بدعم «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية(أريج)»