الموت لا يؤذى الموتى بقدر ما يؤلم الأحياء، وبقدر ما تألمت على رحيل أبى إلا أننى أدركت الآن الحكمة فى اختيار موعد الرحيل، فالرجل الذى نشأ مع ثورة «يوليو» وحارب من أجلها فى «أكتوبر» رأى ثمارهما «الثورة والحرب» تذهب لمن لا يستحق، وعندما جاءت ثورة «يناير» لتجدد الأمل بداخله رأى نتائجها مغايرة لمطالبها ورأى انتشار الجماعات المتطرفة التى لا ترحم أحداً من «التكفير» إلا إذا حرم نفسه من «التفكير» وأصبح «حسن بن البنا» أقرب إلى قلبه من «الحسن بن على»، و«محمد بن عبدالوهاب» أقرب إلى عقله من «محمد بن عبدالله»، فرحل بعد أن وصل له معنى كلمة «محمود درويش»
«عام يذهب وآخر يأتى وكل شىء فيك يزداد سوءا يا وطنى».. رحل حزيناً بعد أن رأى المصريين يتقاتلون وكان آخر ما سمعته منه «المصريين بيموتوا بعض»، وعندما أرسلت أمريكا رشوة مالية لعبدالناصر ليغير مواقفه تجاه القضايا العربية استخدم المال فى بناء «برج القاهرة» فصار رمزاً ليس لأنه المبنى الأوحد أو الأكثر طولاً ولكن لأنه يجسد معنى «الكرامة»
وسنظل نتذكر «جلال عامر» ليس لأنه الكاتب الأوحد أو الأغزر إنتاجاً ولكن لأنه يجسد معنى «البطولة».. وأحياناً كلمة النهاية تكون كافية لتلخيص القصة وشرح شخصية صاحبها ففى رثاء نفسه قال الفنان الكوميدى «نجيب الريحانى» مخاطباً جمهوره «مات الريحانى.. فى 60 ألف سلامة» وقال الكاتب الساخر «محمد عفيفى» مخاطباً قراءه «إذا أحزنتك وفاتى، فلا مانع من أن تحزن بعض الشىء، ولكن أرجو ألا تحزن كثيرا».. وعلى مدفن «عبدالحليم» توجد عبارات من أشهر أغانيه، وفى مدخل مدفن «أم كلثوم» توجد قصيدة من غنائها لأحمد رامى.. ويمكن أن تفهم شخصية «جلال عامر» ومدى بساطته واقترابه من الناس بمجرد زيارتك لقبره فوسط آلاف المدافن يقع مدفن متواضع كُتب عليه «لكننى صعلوك، عابر سبيل، ابن الحارة المصرية، ليس لى صاحب، لذلك كما ظهرت فجأة سوف أختفى فجأة، فحاول تفتكرنى».. لن ننساك.