«لكننى صعلوك عابر سبيل ابن الحارة المصرية، ليس لى صاحب، لذلك كما ظهرت فجأة سوف أختفى فجأة، فحاول تفتكرنى».
لا يوجد تعريف لـ«جلال عامر» أفضل من هذا، كلمات كتبها الراحل عن نفسه فلخص سيرته وحياته ومماته. ولد فى «بحرى» بالإسكندرية فى ٢٥ سبتمبر ١٩٥٢ وعاش بها ابن بلد صعلوكا يتنقل بين حاراتها وشوارعها، يقول عن نفسه «بلا صاحب»، ولكن العديدين كانوا بالقرب منه يتعلمون ويضحكون، ثم تركهم ورحل فجأة من وسط مظاهرة ومازال الناس يتذكرونه.
بعد الدراسة الثانوية التحق «عامر» بكلية الزراعة لمدة ٦ أشهر قبل أن يتركها ويلتحق بالكلية الحربية ليخرج منها إلى جبهة القتال ليشارك فى حرب أكتوبر وهو قائد لسرية فى الفرقة ١٨ مشاة، بقيادة اللواء فؤاد عزيز غالى، وشارك فى تحرير القنطرة شرق القناة. وحاز على ميدالية مقاتلى أكتوبر، كما شارك فى حرب تحرير الكويت، ليترك الخدمة بعدها ويبدأ عالما جديدا بدراسة الفلسفة بكلية الآداب وينتهى منها ليدرس الحقوق وينتهى منها أيضا.
كتب جلال عامر القصة والشعر منذ الستينيات لكنه كان ممنوعا من النشر بقوانين القوات المسلحة، إلا أن بعض أعماله نشرت بواسطة القوات المسلحة ذاتها، واحدة من تلك القصص، «مشوار»، تم نشرها وسط مجموعة من قصص «أدب الحروب» بمناسبة مرور ٢٥ عاما على حرب أكتوبر، بواسطة القوات المسلحة.
تزوج جلال عامر عام ١٩٧٩ ورزق بأربعة أبناء، رانيا ورامى وريهام وراجى، قام بتربيتهم بطريقة «الصداقة»، فيحكى «راجى» لـ«المصرى اليوم» أن والده «لم يكن صارما فى موضوع التنشئة، كان صديقاً جدا لأولاده، الصديق رقم واحد لكل واحد منا. وكان على مسافة واحدة من جميع أبنائه، كان فى المنتصف ونحن دائرة من حوله، وكان يقضى وقتاً كبيراً مع أولاده وأسرته فى مناقشات حول كل شىء، بما فى ذلك شؤونه الخاصة فأبناؤه كانوا بالنسبة له هيئة مستشارين، فكان يطلب منا رأينا فى أحد العروض المقدمة له أو فى الظهور فى أحد البرامج من عدمه».
بدأ جلال عامر الكتابة فى جريدة القاهرة، ثم الأهالى والبديل والدستور قبل أن يستقر به المقام فى «المصرى اليوم»، كما كتب لبعض الصحف العربية مثل «العرب» القطرية و«الشرق» السعودية، كما كان على وشك تقديم برنامج فى قناة «أون تى فى» قبل أن يرحل عنا. كان يبدأ كتابة مقالاته- بحسب «راجى» فى الخامسة فجرا طلبا للهدوء وينتهى منها غالبا بعد خمس أو ست ساعات ليقوم بعدها بإيقاظ أى من الموجودين من أبنائه لكى يقوم بكتابة المقال على الكمبيوتر وإرساله إلى الجريدة، فالراحل لم يكن يحب استعمال الكمبيوتر ولم يتعلمه. ويحكى ابنه أن «عامر» ضحك عندما علم بخبر وقوعه ضمن قائمة «أكثر 100 شخصية عربية حضوراً على تويتر» من مجلة «فوربس» وقال له «لو عارفين إن مش بس مبعرفش أشغل الكمبيوتر ده أنا معرفش أشغل البوتاجاز» لأخرجونى من القائمة.
تعامل جلال عامر مع الكمبيوتر والكتابة كان نابعا من بساطته الشخصية فى الحياة، هو لا يحب الكمبيوتر لأنه من أجيال تحب الكتابة بالورقة والقلم، اعتاد فى أوائل التسعينيات أن يكتب مقاله ويذهب به أسبوعيا إلى القاهرة لنشره، ويذكر ابنه رده على الإعلامى محمود سعد الذى سأله ذات مرة «بعد ما بتخلص كتابة المقال بتعمل ايه» عندما قال «بكتب طلبات البيت.. بشوفهم بأه عايزين إيه من خضار وطماطم وكده».
هذه البساطة والروح المرحة كانت تخفى وراءها هماً يقول عنه صديقه «د. حسن»: كان يرى أن السخرية أداة يصل بها للناس بسرعة «غير الكلام بتاع النخبة اللى فيه الفذلكة والتراكيب اللفظية المعقدة» لكنه لم يكن يعيش حالة فرح، «مكانش بيضحك طول النهار، كان جواه حزن داخلى بيبان على وشه، تحس إنه شايل هم حاجة».
هذا الهم يقول عنه «راجى»: كان والدى يتأثر بالأحداث الصغيرة وأى شىء يحدث فى البلد، أى موقف يراه فى الشارع يؤثر فيه، فعندما كان يرى، على سبيل المثال، مندوبى المبيعات الذين يمرون فى الشوارع كان يتأثر لدرجة قد تصل إلى البكاء لأن هناك شاباً من عمر أولاده اضطر إلى أن يعمل فى غير مجال دراسته «لمجرد أن ظروف البلد أجبرته على كده.. كان بيطلع الكتابة بناء على الأحداث الصغيرة دى» فهو الذى كتب «البلد دى فيها ناس عايشة كويس، وناس كويس إنها عايشة». ويضيف «راجى»: أى كاتب ساخر، خاصة جلال عامر، تنبع كتابته من موقف موجع، فعندما يكتب كلمة تضحك الناس يكون هو متألما من داخله.
عارض «عامر» نظام مبارك بقوة، ورشح نفسه فى انتخابات مجلس الشعب مرتين، ٢٠٠٥ و٢٠١٠، وجرى عليه ما جرى على غيره من تزوير، وقامت ثورة ٢٥ يناير وكان أحد علاماتها البارزة، ويحكى «راجى» أن فى الأيام الأولى للثورة نزل مع والده فى مظاهرة عند قبر الجندى المجهول «كان الحماس اللى عنده وقوة هتافه وحالته النفسية تحسسك إنه فى العشرينيات». وانتهت الفرحة الأولى لتتوالى بعدها الأحزان، وجع الاستفتاء الذى قام به المجلس العسكرى وعلق عليه «عامر» قائلا إن هذا بناء «عمارة على مقبض باب»، وتأتى الضربة القاصمة بمجزرة بورسعيد والأحداث التى تلتها، فيقول «عامر»: «من الظالم الذى حول مدينة حاربت ثلاث دول من أجل الوطن إلى مدينة تحارب من أجل ثلاث نقاط»، ويقول «راجى»: بعد مجزرة بورسعيد أصبح جلال عامر كهلا يبلغ من العمر ١٠٠ عام، فحالته النفسية كانت تتأثر جدا بأحوال البلد ومثل هذه الوقائع كانت توجعه بشدة، «يعنى أنا بعتبر فعلا إن فيه حكمة فى اختيار موعد الرحيل، مكانش هيستحمل اللى بعد كده، كانت هتبقى فترة صعبة عليه جدا».
حزن «عامر» من المجزرة لم يمنعه من النزول فى مظاهرة ضد المجلس العسكرى من القائد إبراهيم إلى رأس التين يوم ١١ فبراير ٢٠١٢، ويقول «راجى»: «كان نازل المظاهرة وكان توفيق عكاشة ومؤيدو المجلس العسكرى اللى معاه عاملينلهم فخ، وكان جلال عامر واعى للفخ ده، ومسك الميكروفون وحذر الشباب، ومع ذلك أكمل الشباب مسيرتهم، والناس قالوا له انت تعبان ونفسيتك تعبانة خليك استريح فقالهم لأ، أنا مش هسيبهم يخوضوا المعركة لوحدهم، أنا رايح معاهم واللى يحصل يحصل. وده اللى يفرقه عن ناس وكتاب كتير. الناس لقت فيه رمز للبطولة، بيتكلم معاهم بجد وبمنتهى الصراحة والصدق وبينزل معاهم المظاهرات. فى المظاهرة دى شاف منظر الناس وهى بتضرب فى بعض، فتعب ووقع، وتحامل على نفسه ووصل البيت بعد كده خده رامى بالعربية لمستشفى عمل التشخيص غلط، وقال إن دى أزمة سكر، فى حين إن الموضوع كان جلطة فى القلب. بعدها بـ٣ ساعات عرفنا التشخيص الصح، ثم طلبنا الإسعاف الحكومى اللى كان على بعد دقيقتين مشى علشان ننقله لمستشفى القوات المسلحة، وبعد ٣ ساعات قالوا مش هنيجى علشان روتينيا مبنتعاملش مع القوات المسلحة علشان بيأخروا الترولى بتاع نقل العيانين. فى الآخر وصلت إسعاف من القوات المسلحة ونقلوه. هناك عمل عملية وبعد كده نفذ قضاء الله فجر يوم الأحد، ومن وقت تعبه فى المظاهرة إلى أن توفى كانت الجملة الوحيدة التى سمعتها منه هى: «المصريين بيقتلوا بعض»..