أن تكون في السادسة والعشرين من عمرك وتمتلك موهبة جبارة واستثنائية، أفكاراً مُختلفة حول السَّرد والحَكي، ورؤية بصرية سابقة لزمانها بعقود، هذه الأشياء لم تكن كافية في هوليوود مطلع الأربعينيات كي تَدفع مُنتجيها وشركاتها الكبرى للتعامل مع «أورسون ويلز» بالتقدير الذي يستحقه، أو..عدم مُحاربته على الأقل.
عام 1941 قدَّم «ويلز» فيلمه السينمائي الأول «المواطن كين»، عن حياة رجل يدعى «فوستر كين»، صحفى وناشر وقُطب سياسي ورمز اقتصادي ومجتمعي، وبعد وفاته تحاول صحيفة إخبارية أن تتبع معنى كلمة «روزبد»، التي كانت آخر ما نَطَقَ به.
الجدل حول الفيلم في ذلك الحين لم يتم بسبب استثنائيته وأهميته السينمائية، هذا أمر اكتشف بعدها بـ20 عاماً، ولكنه كان بسبب هجوم حاد من رجل الأعمال الأمريكي «ويليام هيرست»، الذي اعتبر أن الفيلم يتقاطع مع قصة حياته ويسيء إليه كثيراً، ليعمل على عدم خروجه إلى النور بأي شكل، وهو أمر كاد يحدث بالفعل بعد اتفاق مع منتجيه يفضي إلى حرق نسخ الفيلم، وما صنع الفارق كان مُحاربة «ويلز» في عُمره الصغير لعددٍ كبير من المؤسسات، السينمائية والسياسية، كي يُشاهد الناس فيلمه في النهاية.
وعلى الرغم من عرضه كاملاً في أواخر ذلك العام البعيد، بل وترشيحه لعدة جوائز أوسكار وفوزه بواحدة عن السيناريو العظيم الذي شارك «ويلز» في كتابته، إلا أن التضييق استمر على مَوهبته بقسوة: تَدخل في سيناريوهات أفلامه، تأخير عرضها لمددٍ طَويلة، والأسوأ: إعادة مونتاجها بشكلٍ يُخالف رؤيته.
الحادثة الأشهر كانت مع فيلم The Lady From Shanghai، فيلم النوار الذي أخرجه «ويلز»، وقام ببطولته أمام زوجته في ذلك الوقت «ريتا هوارث»، حيث أنهى مونتاج الفيلم بمدة زمنية تصل إلى 150 دقيقة، ولكن شركة «كولومبيا» المنتجة للفيلم لم يَرُقها ذلك، أرادته عمل جريمة بمدة أقل لكي يكون أكثر جماهيرية، وعَهد رئيس الشركة حينها «هاري كون» إلى مونتيرين لإعادة مونتاج العمل من جديد، ليخرج بنسخة مختلفة يبلغ طولها 90 دقيقة فقط.
الأمر عند «ويلز» كان أخلاقياً، رفض بحسم أن يُكتب اسمه على الفيلم وعلى نسخته المُشوهة، ومع عرضه عام 1947.. فشل بشكل تام في شباك التذاكر واعتبره بعض النقاد كارثة سينمائية، قبل أن يتفهموا أبعاد الجريمة التي ارتكبت في حق «ويلز» وفيلمه، ولكن بعد فوات الأوان.. حيث فُقدت المشاهد التي كان قد صورها ولم يعد محتملاً إعادة مونتاجه وخروجه في صورته الأولى.
أصيبَ «ويلز» باكتئاباتٍ عديدة، وتسبب فشل الفيلم وحكايته المأساوية في انفصاله عن «ريتا هوارث»، ولاحقاً.. اهتم بأن يبتعد عن الشركات الكبرى، وأن يحاول إدخال دولٍ أخرى في تمويلِ أفلامه، خلال الخمسينيات كانت أعماله التليفزيونية الخفيفة هي الغالبة، قبل أن يتجه إلى أوروبا ويترك هوليوود كاملةً، وإلى الأبد، ويقدّم عدّة أعمال متراوحة القيمة خلال البقية من حياته، من ضمنها تحفته الوثائقية F for Fake.
ولكن.. كيف انتصر «ويلز» على هوليوود ومؤسساتها في النهاية؟
الإجابة في الزَّمن، وحده الزَّمن رد إليه ما يستحقه من تكريم واعتبار
ذلك بأن عشرين عاماً مرَّت على إنتاج «المواطن كين»، قبل أن تضعه مجلة Sight & Sound السينمائية على رأس قائمتها لأفضل الأفلام في تاريخ السينما، في استفتاء شارك فيه عدد كبير من النقاد والمخرجين، ولم يُبارح الفيلم مكانه منذ ذلك الوقت، ظل خيار الفنانين والكتاب المُفضَّل كلما جاء الحديث عن أفضل عمل تم إنتاجه.
وفي عام 1997، وحين قدم «معهد الفيلم الأمريكي» قائمته لأفضل 100 عمل سينمائي في 100 عام من تاريخ هوليوود، كان «المواطن كين» أيضاً على رأسها، وهو الأمر الذي تكرر بعد عشر سنوات حين قدم المعهد قائمة مُحدّثة في ذكرى 110 أعوام هوليوودية.
كان الفيلم هو الوحيد لـ«ويلز» في القائمة، وهو العمل الوحيد الذي وصف بأنه نفذه بـ«حريةٍ كاملة» وبعيداً عن أي ضغوط، ظَل الرجل خالداً، ولا تذكر سيرته إلا ويصاحبها هجاء حاد لكيف يمكن أن يمنع غباء المنتجين والسياسات المالية في قهر الفنانين ومنع خروج روائع عديدة إلى النور.
أما «فتاة من شنغهاي»، وعلى الرغم من أن نسخته الباقية ظلَّت مُشوهة، إلا أنه نالَ تقديراً حقيقياً من السينمائيين، تحديداً من ناحية رَوعته البصرية وعبقرية «ويلز» الشديدة في بناء بعض المشاهد بشكل ثوري بالنسبة لزمنه، والناقد الكبير «ديفيد كير» كان دقيقاً.. حين وَصفه بعد ذلك بأنه «أغرب فيلم عظيم تمت صناعته في تاريخ السينما».
و«ويلز» نفسه، نالَ أوسكار شرفيًا استثنائيًا عام 1971، بسبب «براعته الفنية الفائقة وقدرته على خلق أفلام مُختلفة» بحسب بيانها الصادر حينها، كان انتصاراً صريحاً من فنان عظيم على رمز رسمي لهوليوود ممثلاً في أكاديمية العلوم والفنون، خصوصاً مع رفضه الحضور واكتفائه بتسجيلِ خِطاب يُذاع عند إعلانهم جائزته.
مات «ويلز» عام 1985. وعاشَ أبداً بوصفه «مخرج أعظم فيلم سينمائي في التاريخ».