هربت من سعار السياسة المحموم، وطنينها المخترق الآذان، وغبارها المؤذى للعيون إلى ظل شجرة معرفة، ومن صقيع الليالى الباردة إلى دفء عقل كبير، هو عقل الدكتور مصطفى سويف، رائد علم نفس الإبداع، أحد فروع علم النفس الـ37.
في محطة هذا الرجل، الإبداع يئن ويعانى الحصار والخوف. وأنا لا أبغى من حواراتى الصحفية إلا «الإضافة» لذهن قارئ فى زمن التهم «فيس بوك وتويتر» أوقات الناس، فصارت العقول ضحلة، والزمن ضحلاً، والكتاب الورقى ينزف.
وعندما أتلفت حولى أجد طحناً ولا أحصد غلة، وأجد صراخاً، ولا أعرف قضية، وأجد خلافات ولا أحصل على اتفاق واحد يتيم.
أردت أن أثقب- بكل تواضع- هذا العقم وذلك الجمود، فالثقافة تراجعت وانحسرت ومعارض الكتاب صارت نزهة أسرة بأطفالها، ودور النشر صارت تغامر بكتب جديدة فى سوق متقلبة، أردت أن أتزود بقطرات من نبع فكر يعيش فى زماننا بصمت العلماء، فطاف فى ذهنى اسم مصطفى سويف.
كان يجلس حاضر الذهن- رغم العمر- يتناوب على تمريضه اثنان من الممرضين، طلبا منى قبل أن أفتح فمي، ألا أرهقه وأعطيه راحة بضع دقائق، كل ثلث ساعة، وقد امتثلت للطلب.
■في البدء.. ماذا يفعل الزمن بنا؟
- تخذلنا أجسادنا وإن ظلت عقول البعض منا يقظة.
■هل للضغوط البيئية آثار سلبية؟
- يتوقف ذلك على قدرتك على التكيف.
■هل بإمكاننا الهروب من الضغوط؟
- لا نستطيع الهروب فالمطلوب بصيرة ترى الإطار والتوجه، وهذا يساعدك فى فهم على أى أرض تقف. يلازمنى الإحباط منذ فترة.. ما الحل؟
■هل يبدو أنى متحمس؟
- نعم، والدليل أنى طلبت منك تأجيل الحوار حتى يظهر كتاب جديد لى، لكنك بأسلوبك فى الإقناع أدرت سجلك وأدخلتنى فى «المود».
لقد قرأت مرة ثانية بعضا من كتبك واستعصى على بعض ما جاء فيها، واستعنت بالدكتور شاكر عبدالحميد- وزير الثقافة الأسبق- فى موسوعة حياتك. . قاطعنى وقال «هذا حماس لا شك»، فقلت: هذه مهنية، وكان رده: «أنت أشعلتها».
■دق جرس التليفون الأرضى، فأخرسه أحد الممرضين الجالسين حولى فسألت د. سويف: لماذا لا تستخدم الموبايل؟
- أنا لست طبيباً ليستغيث بى مريض ولا أرى ضرورة لاستخدامه، وأكتفى كأستاذ جامعى بتليفون البيت، باختصار الموبايل «ملوش لازمة».
- العقليات التى تقود البلد وتحل مشكلاته، ماذا تفتقد؟
- هم يعانون كفاءة منخفضة.
■ماذا تقصد ؟
- يعنى لا يعقل أن تستعين بواحد زيى أستاذ فى علم النفس، وتطالبني بحل مشكلة الرى فى الدلتا، لازم أكون فاهم قضية الرى فى مصر من ألفها إلى يائها، وهذه هى مسؤولية من يختار، لكن يبدو أن الاختيارات تخدم اتجاهاً معيناً لا يخفى علينا.
■أنت تطالب بحلول غير تقليدية للمشكلات؟
- حلول شجاعة تواجه المشكلة بعقلية فاهمة ولها رؤية.
■هل كسر المألوف إبداع؟
- ليس شرطاً! فكسر المألوف قد يأخذ أشكالاً مشروعة وأحياناً غير مشروعة.
- هل زيارة السادات إبداع سياسى؟
- رد بسرعة: السادات أبدع فى حرب 73.
■ما العبقرية فى مفهومك؟
- العبقرية مسألة معقدة، فيها شق اجتماعى، العبقرى هو الشخص الذى يحسن تقديم إبداعه حتى يتنباه المجتمع.
■إذكر لى عباقرة من مصر؟
- على سبيل المثال، طه حسين، الشيخ محمد رفعت، د. مصطفى مشرفة، وأم كلثوم عبقرية فى الأداء. ■أى الأعضاء أجمل العين أم الأذن؟
- كلاهما يمنحنا متعة جمالية.
■هل صحيح أن الرجال يقودون أكثر والنساء يتكلمن أكثر؟
- هذه فروض فرضها المجتمع وليست قاعدة.
■هل هناك علاقة بين تشريح المخ والإبداع؟
- لا يوجد علمياً ما يثبت ذلك.
■يقولون إن مخ أينشتاين صاحب النسبية كان صغيراً؟
- ضحك وقال: هذه فذلكات لا سند لها.
■ هل تخاف على الإبداع فى زمن الإخوان؟
- طبعاً، فالتشجيع كله للقولبة، أن تدخل فى قالب معين ومطلوب منك أن تدخل هذا القالب، وهو قالب الدولة، والمسألة ستكون ضد الإبداع حتى لو لم يعلن هذا بوضوح، ولا أرى مستقبل للإبداع فى مصر الإخوان، لكن فى مصر مستقبلاً للإبداع، ومصر ليست الإخوان فقط، لذلك أنا متفائل رغم القولبة وخداع النفس والغير.
■هل يقمع المبدع إبداعه من أجل القولبة؟
- إذا تهدد الكائن ومفهوم طبعاً معنى التهديد، هناك أمران، إما أن يهاجم من يهدده أو يكف. ■يكف عن إبداعه؟
- التهديد يثير الخوف، والاستبداد يقلص فرص الإبداع وربما يمحوها، والكائن البشرى المصرى قد يقوده هذا الخوف وهذا الحصار إلى الإبداع.
■هل هذا تفسير لإبداع فرسان الستينيات فى زمن عبدالناصر؟
- إنها مشكلة معقدة، وتحتاج دراسة تربط بين الإبداع والديكتاتوريات وعبدالناصر - رحمه الله - يحتاج إعادة نظر لكل من يكتبون عنه أنا مثلاً احترم كتابات د. هدى عبدالناصر، فهى تكتب عن الوالد قبل الزعيم، وهى فى موقف المدافع عنه.
■هل الأديان ضد الرسم أو المسرح أو الموسيقى؟
- إطلاقاً، هل ننسى حسان بن ثابت الذى وُجد فى عصر النبى محمد - عليه الصلاة والسلام - قدم أشعاره فى خدمة الدعوة، وعندما تتكلم عن عظماء الشعراء كالمتنبي والبحتري، فهناك إبداع لا مثيل له، وأنا جالس معك الآن هناك بجوارى كتب للدكتور صلاح فضل، أعود إليها كثيراً فى قراءة ثانية وثالثة، وفيها يقدم فضل إبداعات شعرية لعصور إسلامية، وعندما دخل العرب الأندلس ظهرت الأندلسيات، لتدل على هذه الحضارة، وهذه النبتة تحرض على الإبداع، وهل ننسى ابن سينا وجابر بن حيان وابن الهيثم.
■كيف تقرأ الهجمة السلفية على الفن؟
- كل واحد له توجه، أنا أظن أنهم متسقين مع أنفسهم، ومن وجهة نظرنا متشددون هم يحاولون أن «يقولبونا» فى قالبهم، ويضغطوا علينا ويقهرونا بوسائل شتى.
■هل تعتبر نفسك «ليبرالياً مستنيراً»؟
- الشائع الآن أن الليبرالية كفر، وهذا خطأ، وأنا لست مع الليبرالية لأن لها أيضاً مخاطرها، أى حرية التجارة، فهى أساساً نظام اقتصادى اجتماعى ثم يأتى الفكر.
■لماذا اخترت علم نفس الإبداع طريقا لك؟
- إنها لأسباب حياتية.
■ماذا تقصد؟
- أجدك معنيا بشدة بالتفاصيل؟
■التفاصيل مثل المقدمات تقود إلى نتائج؟
- كنت فى الماضى أكتب الشعر والقصة، وفى لحظة قررت أن تكون دراستى العليا فى علم النفس وواجهتنى أزمة، وهى أن ظللت مشغولاً ومتيماً بالشعر والقصة لن أنجح فى دراساتى العليا، لابد من قرار.
■ماذا اخترت؟
- اخترت دراساتى الأكاديمية، فعلم النفس يوافق حياتى المزاجية وأحيانا يعطينى «ضبط المعرفة».
■ما معنى ضبط المعرفة؟
- أن تحدد الأشياء فى حياتك بوضوح، يعنى لما أشعر أن عندى حرارة لا أترك ذلك للاجتهادات أو التخمينات، أجيب الترمومتر وأقيس بنفسى وعلى ضوء الإجابة يحدد الطبيب حالتى.
■هل استهواك القلم؟
- بالتأكيد لدرجة أنى جمعت أشعارى وقصصى وأحرقتها فى البانيو، وهذا بالطبع من قبيل الضبط المعرفي، وهو ضبط ذاتى يحدد اتجاهاتى دون تردد.
■لكن ما أحرقته، قطعة منك؟
- نعم وبعد أن أحرقتها كان مخى مشغولاً بسؤال، هو كيف كتبت هذا الإنتاج، وكان لابد أن أبحث «سيكلوجية الإبداع»، وأشرف على البحث أستاذى يوسف مراد.
■هل صحيح أن فى داخل كل منا نقطة إبداع مخبوءة بين جوانحنا لم يهتد إليها؟
- كل منا عنده قدرات الإبداع الأساسية، وهى كما كتب عنها عالم النفس جيلنو 5 قدرات: الأصالة والمرونة والطلاقة والتقييم والثقة بالذات. هذه القدرات لو وجدت فرصتها للنمو والرعاية لصارت «مهارات».
■هل لأساتذة العلوم الإنسانية مكان أو مساحة على مائدة صاحب القرار؟
- لا أظن، فالمهم عندهم الموالون وبالتالى لن يستفاد من خبرتهم أو علمهم.
■هل تلاحظ تطاول بعض الشيوخ على الفنانين؟
- عبث وإرهاب، ثم إن الأديان لا تعادى الفن، ومن يملك أن يسب الزخارف الإسلامية أو عظمة القدماء أو روعة أعمال فنية هزت مشاعرنا؟!.
الإبداع والحشيش!
■صارحنى هل هناك علاقة بين تعاطى الحشيش والإبداع؟
- أنا متحفظ على كلمة «تعاطى».
■أحذفها وأعد السؤال: هل ثمة علاقة بين الإبداع والحشيش؟
- نسبة صغيرة منه تطلق العنان للخيال، لكن نحن داخلنا «كوابح» أى فرامل.
■أعرف مبدعين عظاماً كانت السيجارة المحشوة تؤنسهم.
- فهمت ما تقصد، لكن الفرامل الموجودة فينا تحدد مدى المؤانسة، وعلى قدر كفاءة الفرامل تكون الاستعانة بأنفاس سيجارة.
■أنا لم أدخن طوال عمرى ولم أجرب سيجارة الحشيش فى أى لحظة حتى على سبيل التجربة؟
- هذا فضل الله عليك، وأنا لم أقل إن سيجارة الحشيش شرط للإبداع، وأتذكر أن صديقاً لى اعترف أنه لا يستطيع أن يقول لزوجته «أنا أحبك»، ما لم يستعن بسيجارة حشيش، وربما أجد صعوبة أن أقول لها هذه العبارة وأنا فى كامل وعيى.
وتقديرى أن الأمر فيه نوع من الخداع، يسوق لك فكرة أن سيجارة الحشيش تحرضك على الانطلاق. ■هل فى بلدنا مناهج علمية وأساليب لاكتشاف مواهب النشء؟
- المشكلة فى المجتمع الصالح المستعد لالتقاط هذه المواهب ورعايتها.
■كان فى حياتنا كامل الشناوى وحسن فؤاد يلتقطان مواهب فنية وصحفية.
- «كان» فعل ماض.
■متى نتذوق طعم التقدم؟
- ألاحظ رنة الأسى فى سؤالك، وعلى أى حال، ظروفنا السياسية تشدنا إلى الوراء، وأحب أن أقول لك قناعتى أن الشعب دائماً أكثر تقدماً من الحاكم، حتى النابغون كانت الأنظمة تتجمل بهم.
■ممّ تخاف على البلد؟
- لما الإرادة، وأقصد إرادة الصمود، تنكسر رغم أن مصر مرت بفترات انكسار وعبرتها. قلت: هل الإبداع يأتى من رحم المعاناة؟ قال: المعاناة العامة فى الحياة مختلفة عن المعاناة الداخلية فى إطار الفن، هناك فرق.
■ما رهانك على الشعب المصرى؟
- لما تلاقى شاب فى العشرين من العمر نازل الميدان مجرد مصري، وكاتب على ظهر دراعه رقم تليفونه علشان لما يستشهد أهله يعرفوا جثمانه.. ثم بكى.
يرى عالم النفس سبرينجر spranger، ويوافقه دكتور سويف، ما ذهب إليه، تحليل أنماط الشخصية إلى 6 أنماط عبر السلوك اليومى للناس وهى:
1- النمط النظرى: تتحكم فيه القيم النظرية المثالية، وتسيطر عليه الرغبة فى اكتشاف الحق.
2- النمط الاقتصادى: تتحكم فيه القيم النفعية.
3- النمط الجمالى: قيم التناسق والتماثل.
4- النمط الاجتماعى: الناس عنده غايات لا وسائل.
5- النمط السياسى: الرغبة فى السيطرة بفكره.
6- النمط الدينى: تتحكم فيه القيم الدينية والخوف من الله.
سويفيات:
تتلمذنا على «إليوت» المبدع.. ما نطلق عليه «التلمذة عن بعد» وهو استغلال الإبداع وتوظيفه.
أحب عبدالوهاب القديم «مسكين وحالى عدم» و«يا ترى يا نسمة» و«كروان حيران» ومازلت أطرب له.
خضوع المرأة أمام سيطرة الرجل نوع من التكيف الأنثوى.
فى حادث الشاب مهند لم تلمس بلية الرصاصة النخاع المستطيل فى المخ وهذا سر نجاته.
أوافق أينشتاين على رأيه أن «فى خلق العلماء الباحثين عن الحقيقة ما يجعلهم أقرب إلى الزهاد المتقشفين».
الإبداع تعبير عن نفسية الإنسان، خوالج خرجت فى قصة أو رواية أو لوحة اجتاحت نفس مبدع.
أحب أن أصف نفسى بديمقراطى ومؤمن بالديمقراطية حتى النخاع.
أحرقت قصصى وأشعارى فى البانيو!
وجدانيات مصطفى سويف
الفن عندى يجسد الشخصية، أما العلم فهو نشاط مجموعة.
القدرات الإبداعية لها منحنى زمنى، أفضلها فى الأربعين من العمر وقد تظهر فى الستين وما بعدها.
د. أهداف سويف أخذت منى ومن والدتها د. فاطمة موسى الانتظام والانضباط وتحقيق الهدف مهما كانت الظروف، وهى كاتبة عالمية.
د. ليلى سويف أخذت مني الاهتمام بالشأن العام وتبارك بتحضر نشاط ابنها علاء عبدالفتاح وقول كلمة الحق.
علاء سويف أخذ منا شخصية الواثق من ذاته وقدراته وأدواته.
مازلنا غير متأكدين إن كانت هناك علاقة بين الإبداع والجينات الوراثية.
أرفض الربط بين الإبداع والجنون لأنهما متناقضان.
قناعتى أن مصر تمر بحالة مخاض بعد الثورة مثل سائر ثورات العالم.
ومصطفى سويف: من مواليد عام 1924، عاش عصور الملك فؤاد، والملك فاروق، ومحمد نجيب، وعبدالناصر، والسادات، ومبارك، ود. محمد مرسى.
برز حسه اللغوى فى المدرسة الابتدائية من دروس المطالعة وحفظ القرآن والشعر العربى القديم وكان يستمتع بالإلقاء والنطق بالعربية.
دخل قسم الفلسفة بكلية الآداب، وتخصص فى فلسفة علم الجمال «كانت الفلسفة طريقى إلى أن أوجه عقلى فيما أمر أو علمتنى أن أكون عقلاً فعالاً لا منفعلا».
4- حصل على الدكتوراة فى علم النفس من جامعة القاهرة والدبلوم علم النفس الإكلينيكى من جامعة لندن وعضو جمعية علم النفس البريطانية.
أول رئيس لأكاديمية الفنون وقت تولي ثروت عكاشة وزارة الثقافة.
له دراسات مستفيضة حول الإبداع والتذوق الفنى والتفضيل الجمالى، وله 32 كتاباً ودراسة.
اهتم بالمخدرات كمشكلة فى المجتمع وقدم خبرته فى علاج الإدمان.