تهندم الطفلة الفلسطينية «أمسيات» ذات الأعوام الأثني عشر ردائها المدرسي الأخضر قبل أن تقوم في نشاط إلى السبورة في مقدمة الفصل، ترفع يدها حاملة رسما ملونا نفذته بنفسها وتبدأ في شرحه لزملائها.
مشهد عادي يتكرر في جميع المدارس حول العالم، ولكن الفرق الصادم أن الرسم الذي نفذت الطفلة لم يكن لرحلة مدرسية سعيدة أو نزهة عائلية، بل ليوم أغارت فيه الطائرات الإسرائيلية على منطقتهم، متسببة في مقتل أخيها الصغير إبراهيم، ذو الأعوام التسعة، وتدمير منزلها.
تشرح أمسيات الرسم وسط تصفيق باقي الطلبة، "هنا قتلوا أخي إبراهيم، رحمه الله، و هذه الطائرة الـ إف 16 التي ألقت الصاروخ على البيت والأشجار، وهذه الدبابة هي التي بدأت إطلاق النار".
هذا التمرين المعد لطلبة المدارس يتوافق مع حالة الحرب التي سادت حياتهم القصيرة، وبالذات حالة الرعب التي عاشوها أثناء الحملة العسكرية على قطاع غزة في عام 2008، والتي حملت أسم الرصاص المصبوب، وقُتل فيها 1400 فلسطيني ودمرت فيها إسرائيل ثُمن (1/8) المنازل الفلسطينية.
ومثلها مثل المئات من عائلات غزة المشردة، تعيش عائلة امسيات في خيمة قرب موقع منزلها المهدم. لم تتم سوى القليل من أعمال إعادة الإعمار، أما الإمدادات فيصعب وصولها إليهم نظرا للحصار الإسرائيلي المستمر على القطاع منذ العام 2007.
الأطفال من جانبهم أخذوا في لعب الكرة حول آثار القنابل التي أصبحت سمة مميزة لتلك الأحياء.
مشكلة التشرد هي واحدة من عدة مشكلات صار أطفال غزة البالغ عددهم نحو 780.000 يعانون منها جراء الدمار. هذه المعاناة سوف تعرض خلال فيلم وثائقي على القناة الرابعة البريطانية تحت عنوان "أطفال غزة".
ربما يمكننا أن نقول إن الأثر النفسي الذي خلفته الحرب على الأطفال الناجين هو أبرز أشكال تلك المعاناة، وقد أشار برنامج غزة للصحة العقلية في تقاريره إلى أن غالبية أطفال القطاع يعانون من مشاكل سلوكية وعلامات القلق والاكتئاب.
يقضي الصبية الصغار أوقاتهم في تشكيل علب المياه الغازية الفارغة على هيئة صواريخ، ويتحدثون عن البنادق الزائفة التي سيشترونها بمصروفهم.
اللعبة التي يمارسها الأطفال تختلف عن ألعاب الحرب بين رعاة البقر والهنود، والتي يفضلها نظرائهم حول العالم، فهي ذات طابع يعكس الواقع المشؤوم، حيث إن طرفاها هم العرب واليهود. هذه اللعبة قد تعد انعكاسا لرغبة الأطفال في الانتقام، والتي لا يخجل معظمهم من التعبير عنها.
يقول مخرج البرنامج الوثائقي، «جيدزا نيومان» والحائز على جائزة الأكاديمية البريطانية لأفلام وفنون التليفزيون: "لو كان هناك طريقة قانونية ليحصل هؤلاء الأطفال على انتقامهم، لو كان أحدا قد أعتذر لهم، لربما تمكنوا من التعايش مع واقعهم، ولكن لم يكن هناك من سبيل لذلك. إن ما نراه الآن هو مجرد نذر يسير من مشكلة أكبر".
يصف الطفل محمود، 12 عاما، اليوم الذي طرق فيه جنود الاحتلال باب منزلهم وأردوا والده قتيلا. يجلس الطفل على التراب في البقعة التي سقط فيها أبيه في حالة من الحزن الشديد فيقول:" قبل الحرب، كنت أفكر في التعليم والدراسة، و لكن الآن كل ما أفكر فيه هو كيف أصبح مقاتلا." ويضيف وهو ينظر بعينيه إلى الكاميرا:" إن شاء الله لو تمكنت من قتل إسرائيلي واحد فسيكون ذلك أفضل من لا شيء."
ويلقى محمود تشجيعا من عمه أحمد، أحد عناصر حركة الجهاد الإسلامي الإرهابية. يوجه العم كلامه إلى ابن أخيه وهو يجلسه أمام فيلم يصور منفذي التفجيرات الاستشهادية: "انظر، إنه لا يشعر بشيء حين يفجر نفسه." وعلى بعد بضع مئات من الخطوات من منزل محمود، يظهر أحد معسكرات التدريب لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، حيث الشباب وهم يحملون منصات إطلاق الصواريخ.
ورغم أن محمود يتوق إلى الانتقام، إلا أن أمه تبكي لمجرد التفكير في أنه قد يصبح شهيدا يوما ما، وتعلق: "انه لشرف أن يموت الإنسان في سبيل الله، ولكنني لا أريد أن افقد ابني."
يعتقد البعض أن قلة فرص العمل التي سببها الحصار الإسرائيلي على مداخل القطاع قد تدفع الأطفال إلى التفكير في أن الانضمام إلى المقاومة هو الحل الوحيد.
الأسبوع الماضي، أشعل الفلسطينيون ألف شمعة خلال تظاهرة سلمية احتفالا بمرور ألف يوم على الحصار. وخلال تلك الفترة، ارتفع معدل البطالة إلى 45%، وصارت76% من العائلات تعاني من الفقر.
يقول السيد نيومان: "هؤلاء الأطفال يواجهون مشقة في التفكير في المستقبل. العديد من شباب القطاع يعانون من البطالة، وطريقهم الى المستقبل غير واضح بالنسبة إليهم نظرا لعدم قدرتهم على الخروج."
اصيبت عائلات غزة بالتمزق جراء الصراع، وأصبح أرباب الأسر يشعرون بالذنب لإخفاقهم في حمايتهم وفشلهم في توفير احتياجاتهم بعد الدمار الذي حل بالمدينة.
يجلس والد أمسيات داخل الخيمة ويبكي فيما يتحدث عن ندمه لوفاة ولده إبراهيم، فيقول: "لقد قتل الإسرائيليون ولدي وهو بين ذراعي. لم أستطع حتى أن انظر إليه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة لأن الجنود كانوا يقفون فوق رأسي تماما. لقد كنت جبانا لدرجة أنني لم أستطع أن احتضن ولدي على الأقل، كنت خائفا من أن أتعرض للقتل، وهذا هو ما يعذبني."
يقول الدكتور أحمد ابو طوانحينة، مدير برنامج الصحة النفسية بغزة، إن تلك المسالة ألقت بظلالها على الحالة النفسية للأطفال كذلك. ويضيف أن هؤلاء الأطفال فقدوا آبائهم مرتين، مرة حين رأوهم و هم مذعورون أثناء الصراع الدائر، ومرة أخرى بعد الصراع، حين شاهدوهم وهم عاجزين عن توفير احتياجاتهم الأساسية من غذاء ومأوى.
أثر الصراع في غزة كذلك، في بعض الحالات، على العلاقات الأسرية. وتربط المنظمات غير الحكومية و خبراء الصحة النفسية بين ظاهرة العنف الأسري وحالة العجز والشعور بالذنب.
وذكرت دراسة صادرة عن مركز معلومات وإعلام المرأة الفلسطيني أن 77% من الفلسطينيات في قطاع غزة يتعرضن للعنف الأسري، وهو ما أيده صندوق الأمم المتحدة لتنمية المرأة، حيث ذكر أن تلك الحالات تشتد بتزايد وتيرة الصراع.
من بين الأطفال الذين تركت عليهم الحرب آثارها النفسية، الطفلة آمال ذات الأعوام التسعة، وهي أخت محمود. قضت هذه الصغيرة أربعة أيام تحت أنقاض منزلها- المدمر بفعل القذائف الإسرائيلية- قبل أن يتم إنقاذها. وخرجت آمال من الحادث بشظية استقرت في مخها. أدت تلك الحالة إلى معاناتها من الصداع ونزيف الأنف. ورغم عدم حصولها على الرعاية الطبية التي تحتاج إليها، إلا أنها كانت محظوظة بما فيه الكفاية لتمتلك الأوراق اللازمة للذهاب إلى تل أبيب، حيث يقوم أحد المتخصصين بفحصها. ولكن التجربة التي مرت بها آمال جعلتها ترفض الذهاب لخوفها من الإسرائيليين.
تحني آمال جسدها أثناء قراءتها لكتاب ملون. تربط شعرها البني المجعد برباط رأس جميلة. تقول الطفلة:" أنا خائفة من الذهاب إلى إسرائيل، أخاف أن يقتلني اليهود."
ولا يملك معظم أطفال غزة المتحجزون في قسم الأورام بمستشفى الشفاء خيار الرحيل، بل أن التكهن بمصير حالتهم المرضية لا يبشر. ولا تتوفر في القطاع وسائل العلاج الكيميائي. ومعظم الأطفال لا يملكون الأوراق اللازمة للتحرك عبر الحدود المصرية أو الإسرائيلية للذهاب حيث يتوفر هذا العلاج.
ربحي، 10 سنوات، هو أحد هؤلاء الأطفال، ويعاني من مرض اللوكيميا ويعجز عن مغادرة القطاع. يجلس أبيه في إحدى غرف المستشفى مضطربا، ويمر بحالة من الانهيار لعجزه عن توفير الدواء لولده أو الخروج به من غزة.
يقول «ستيف سوسيبي»، مدير صندوق إغاثة الأطفال الفلسطينيين، إن معدل الوفاة بمرض السرطان في غزة يزيد عن أي مكان آخر.
ويؤكد أنه في معظم الحالات، لا أحد يحصل على التصارح اللازمة لدخول القطاع، ويؤكد أن معظم الأطفال يموتون بسبب القرارات التي يتخذها المسئولون سواء في مصر أو حماس أو إسرائيل.
حتى الأطفال الذين يملكون التصاريح للخروج من غزة لا يستفيدون كثيرا. هناك مثلا على سبيل المثال الطفل وسام، 8 أعوام، المصاب باللوكيميا هو الآخر. حصل هذا الطفل على تصريح للدخول إلى مصر للعلاج، إلا أنه أضطر للانتظار على الحدود لحين فتح المعبر. وبعد أن علم الطفل أنه سوف يسمح له أخيرا بالدخول بعد ساعات من الانتظار، اضطرت العربة المحملة بالمرضى من المستشفى بالسير لمسافة طويلة عائدة إلى مستشفى ناصر.
وحاول والد وسام جاهدا أن يعرف من مسئولي المستشفى سبب إعادة السيارة مرة أخرى، وقال في كلمات تعكس حال العديد من الأطفال الفلسطينيين:" كل يوم يمر على ولدي في هذا المكان يقربه إلى الخطر."
*كتب التقرير «ريتشيل شيلدز»
مترجم عن صحيفة «الاندبندنت» البريطانية