هُناكَ درس كبير نتعلمه ببطء في الحَياة، وهو أن التصوُّرات التي نَحملها عن سَير الأمور وطبائعها.. لَن تُوافق الواقع بالضرورة، لأن العالَم مكان صَعب للعَيْش، وقاسٍ أكثر من اللازم في الكثير من الأحيان.
خُذ مَثلاً، قصة عن رجل عَجوز في الثمانين من عمره يعتني بزوجته التي أصيبت بسكتةٍ دماغية، يبقى بجوارِها، يُمسك يدها طوال الوقت كي تعرف –حتى حينَ تغيب- أنه هُنا، يَجعل لأثرِ خمسين حَولاً أو يزيد من العِشرة والحياة سوياً مَعنى، تِلك قصة رومانسية للغاية، التصوُّر: كم أن هذا جَميلاً ورائعاً عن الحُب والوفاء، ولكن الواقع أصعب وأقسى من ذلك فعلاً، ماذا تعرف عن أوقات الألم، عن الأنينِ المُتقطَّع، عن غياب مَلامح الشَّخص القريب أمامَك كل يوم؟ ماذا تعرف عن بُطءِ الوقت؟ وعن يومٍ بطول 24 ساعة يتكرر إلى ما لا نهاية ولا يَحمل سَوى الموت؟، أنتَ لا تَعرف شيئاً عن كُل هذا، وبالتالي.. فالتصوُّرات لا مَعنى لها، يَنْبَغي أن تعيش لكي تَعلم.
طُوالَ شهور انتظرت فيها مُشاهدة فيلم المخرج النمساوي «مايكل هانِكه» الجديد «Amour»، الذي استقبل في مايو الماضي بعاصفةِ مَديح نقدية كبرى قبل أن يُتوَّج بالسعفة الذهبية لمهرجان كان، كنت أحمل هذا «التصوُّر»، وما إن شاهدته حتى «عِشت» الواقع، عَرفت حَقيقة الأمور.
هذا في الحقيقة لَيسَ فيلماً عن «الحُب»، حتى لو فيه جانباً حمل هذا المعنى وعَبَّر عنه طوال النّصف الأول من أحداثه في اعتناء الزوج بالزَّوجة المَريضة، ولكن بعد ذلك تبدو حَقيقته.. هذا فيلم عن الخوفِ من الزَّمن قبل أي شيء، «هانِكَه» يخاف فعلاً، من العجز ومن الوحدة ومن الاتكاء على الحوائِط والنَّومِ على الأسرَّة دونَ حَراك، ومن الزَّمن.. كعدوٍ يَختفي وراء كل هذا، طَويل البَال جداً، البطء هو ميزته الأساسية، «هانِكه» يجعلنا «نعيش» ذلك تماماً، يَحصرنا مع الزوجين العجوزين في الشقة التي تم فيها تصوير الأحداث كاملةً، بإيقاعِ فيه الكثير من بطءِ العَجائز، نَشعر بالأمور وهي تسوء في كُل دَقيقة أكثر من سابقتها، نَرى المرض وهو يُجهز على جَسد «آن» والخَوف يأكل روح «جورج»، ولا نَحْمِل – أو يَحملوا – سوى العَجز.
وعند وصول الإرهاق والضَّغط إلى مداه، بالنسبة لبطليه وبالنسبةِ لنا كمُشاهدين، يُنهي «هانِكَه» كُل هذا بمشهد عَظيم، واحد من أعظم المشاهد السينمائية خلال 2012، يَبْقى على الشاشة لخمسِ دَقائق كاملة، يَحكي فيهم «جورج» لـ«آن» حكاية عن الخوفِ كي يشغلها عن الألم، ولا يَبقى له بعد ذلك إلا ذَلِكَ الأمر، «لا بأس، لا بأس، أنا هنا مَعَك».
«هانِكه» الذي وَصَلَ إلى السبعين من عمره أثناء تصوير الفيلم حَمَّله بالكثير من رَوْحِه وهواجسه، وصَنعه كما يَليق تماماً بعملٍ عن العَجائز، ولكن إنجازه الأكبر هُنا كان في إعادة اثنين من رموزِ السينما الفرنسية من اعتزالِهما وقيادتهما إلى أداءين عظيمين – من جديد- في مسيرتهما الطويلة جداً، «جان لوي ترينتيتيان» و«إيمانويل ريفا» هما «زاد الفيلم» كما وَصفهما «هانِكَه» نفسه، يُمكن مشاهدة «ترينتيتيان» وهو يَحمل الجِبال على كَتِفِه ويزداد ثُقلها في كل لحظة، و«ريفا» وهي تَنْكَمِش وتفقد السَّيطرة على كل جزءٍ في جَسدِها كلما مرَّ الوقت، وقتها سنفهم لماذا كانت بقية جملة «هانِكَه»: «كان من المستحيل أن أصل إلى السَّعفة أو أي شيء آخر لو لم يكونا مَعِي».
هذا فيلم عَظيم، ربما لا يبدو كذلك أثناء مُشاهدته، سَيكون عادياً ولا يَحمل أي مُمَيَّز، سَتَشعر ببعض المَلَل وبعض البُطء والكثير من ثُقلِ القلب والوَقت، ولكن تِلك بالظَّبط هي التجربة، فَور أن تنتهي.. سيبقى في ذاكرتِك طَويلاً، لقد عَرفت الكثير الآن، تجاوزت «التصوُّرات» ورأيت الواقِع، وعَشَّشَت روحك في فيلمٍ.