كيف نبدأ رحلتنا؟ وأين ومتى نجد ردودا لكل هذه الأسئلة التى ترهفنا باللهفة، وتزيد من إصرار القلم والكاميرا، على استخراج كنوز النوبة من جوف مناجم الجنوب؟
هل ستفتح لنا النوبة أبوابها، وهل سيفتح النوبيون قلوبهم لنا، ويفصحون عن حكايات وعادات هذه الوجوه وتلك الأرض، هل سنتذوق طعماً جديداً لأيام العيد، ونحصد تفاصيل الحياة فى أطول مشوار من مشاوير أرض مصر؟
الأسئلة عديدة، كانت تدور فى رؤوسنا، ونحن نمر بين أمواج النوبيين أصحاب البشرة السمراء، الذين بدوا رغم أصولهم التى تتبع 44 قرية، وكأنهم أبناء قرية واحدة أو شارع واحد أو حتى منزل واحد، الجميع يتخذ نفس الوضعية، فيما كانت حقائبهم وكراتين خاصة بهم ملقاة على رصيف رقم 9 فى محطة مصر.
كل قرية خصص لها عربة محددة، أفراد تابعون لكل منها يرشدون أبناء قريتهم عن مكان تجمعهم على الرصيف، الأمور تسير فى سريالية فريدة، المشهد لخلية منظمة جداً، يبدأ دائماً فى الجمعيات النوبية فى القاهرة، التى تنسق مع هيئة السكك الحديدية، على تنظيم رحلات يخصص لكل منها قطار بأكمله، وتقسم التذاكر على جميع الجمعيات بالتساوى، بقيمة مخفضة جداً.
مع دقة الساعة الـ6 مساء، يبدأ دوى عجلات قطار «مخصوص النوبة» على أرض الرصيف، ومن كل عربة بالقطار يطل رأس مشرف الرحلة بالقرية، ووضعت على أبواب العربة أسماء القرى للتسهيل على المسافرين. لحظات وكنا داخل القطار بعربة قرية أرمنا، حيث بدأت أراجيد النوبيين تدق، نوبيو الإسكندرية تركوا مقاعدهم ليمروا على الرصيف، حاملين الدف ليبدأوا زفة نوبية دافئة، ترحيباً بالعائدين إلى قراهم.
انتظرنا حتى يبعد القطار عن محيط القاهرة الكبرى، كما نصحنا صديقنا «سيد شكرى»، الذى وفر لنا تذكرتى السفر، وبعد أن انتهت السلامات وهمهمة الوداع من خلف زجاج القطار، واستقرت حقائب الجميع بدأت أراجيد العودة لبلاد الذهب، المعروفة بـ«الزفة النوبية»، الشباب يواصلون طوال الرحلة الغناء دون انقطاع، لكن عربة قرية أرمنا بدت هادئة بتكوينات بشرية صامتة تعد العدة لنوم عميق.
لا صوت يعلو فوق صوت احتكاك عجلات القطار بالقضبان، وبين المقاعد كانت صناديق دنيا تعج بالبشر والصور، نساء ورجال وشباب وأطفال، للوهلة الأولى تشعر وكأن الرحلة هى حياتهم الطبيعية التى يمارسونها بغاية الحرفية، نيام يتكأون على بعضهم البعض، ويستخدمون بعض الأقمشة كغطاء لسريرهم، المكون من كرسى بلاستيكى غير مريح بالمرة، ولكنهم استطاعوا أن يتخذوا وضعيات تتلاءم معه، حقائب موجودة فى كل مكان بطريقة منظمة جداً. والحق لم يكن مرورنا عبر العربات سهلاً، لما يتطلبه ذلك من مهارة فى القفز بين العربات فى الهواء الطلق، دون أى دليل حولنا.
ومع خروج القطار من محطة الجيزة، شعرنا وكأننا فى رحلة عبر آلة الزمان، حركة حياة، ضجيج غير ذلك الذى يصدر عن زئير النيام وتكتكة القطار وترتيب الحقائب، إنه ضجيج موزون مضبوط بقرعات خماسية على جلد الماعز المشدود على «الطار»- الدف النوبى- إذا اقتربنا من الأراجيد.
فتحنا باب العربة، ليصرخ اللون البرتقالى المتصاعد من زجاج النوافذ فى وجوهنا فيضفى مزيداً من الدفء على صوت الشاب، الذى يغنى بالنوبية «جورندى.. جورندى»، أى «الفرحة.. الفرحة»، وبدت أعمدة الإنارة خارج القطار كما لو أنها تعلن ذوبان المدنية وزحام العاصمة، وبتعويذة نوبية من ذاك الفتى الذى تنبش يده ظهر «الطار» فتخلع عن ركاب القطار ملابس العاصمة، وتبدلها بالعراجى القصير الأبيض الشهير فى بلاد النوبة، حقاً تعويذة نوبية يقف فيها بقية النوبة ليصنعوا «كورسا»، شديد النعومة والاتزان، لا نشاز فيه «كورس» يخفت معه زئير القطار، لتتحول إلى «ما يسترو» يضبط إيقاع الرحلة، ويصنع من حركة العربات رقصة نوبية تتهادى على نغم بشرى شديد التشابك، وتضفى طرقات بائع «الكازوزة» هارمونى تلقائياً، وهو يمر بين كوبليهات الغناء، التى يتبادلها الشباب الجالسون على المقاعد حول المطرب. ومع أول رصاصة تطلقها كاميرا زميلى المصور «محمد هشام»، يرتفع صوت التعويذة ويدق الكاهن بوق الأراجيد، ليتجمع الشباب حول الدف، ويغنوا أغانى النوبة القديمة التى قدمها «على كوبان» و«خضر العطار»، وتشتد قرعة الطار ويقف الشباب مؤديين الكورس، ويبدأون فى التصفيق وهم يتمايلون فى رقصة الجعافرة، ثم تتحرك الأوركسترا لتمر بين العربات، معلنة «جورندى»، وكأنهم راقصو كرنفال «ريو دى جانيرو» يمرون فى الميادين، الجميع يهلل ويصفق ويمتزج مع الكورس الذى يعبر العربات، وهو يغنى «جورندى».
ساعات الرحلة تمر سريعاً، والغناء «أيانا ساعبون بايونامى، أماليكا نورين شهدينانى، ماينين سايلا تون اركى، جودسمينا فاينانى، ايرمنا تاميديارى»، وهى أغنية استطعاف للنوبة القديمة، تستجديها بالرجوع فتقول: «الجميع يشهد على حالى لفراقك، الدموع تسقط من عينى فكتبت اسمك على كل الأرض، لماذا لا ترأفين بحالى مثلهم فنعود».
هدأ الكرنفال، وعدنا إلى مقاعدنا، الجميع بدأ يلتقط أنفاسه، ونلتقط نحن من غيطان النوبة محصول العشق والحكايات فى جلسة «عنجريب» بمخصوص النوبة، والبداية كانت مع كريم محمد شاطر، الذى أطلق شحنة عشق وحماس، بمجرد أن سألناه عن سر عشقه للنوبة القديمة وحنينه لبلاد لم يولد بها ولم يرها بعينه، فأجاب: «فيه حاجات بنحبها من غير ما نشوفها، لو لك جد ولم تره ستجد نفسك تحبه وتحن إلى رؤيته»، واستطرد وقد لمعت عيناه الثاقبتان بدموع الحنين: «جدودنا وآباؤنا وتاريخنا مدفون فى النوبة القديمة، النخل والنيل والخير مدفون هناك، وحتى عندما تم تهجير آبائنا لم يعوضوا تعويضاً حقاً، فحصل كل منهم على جنيه ونصف مقابل كل نخلة»، وكانت هذه الإجابة تستدعى سؤالاً واحداً إذا هل تريدون أن تنفصلوا كما يدعى البعض، فكانت الإجابة واضحة وافية شافية «النوبيين ميقدروش يعيشوا لوحدهم، وإحنا مصريين نوبيين ومنقدرش نقول مصرى بس ولا نوبى بس».
الأساطير النوبية، كانت كافية ليزيد شوقنا إلى بلاد الذهب، لكننا ورغم أرق «التسطيح» على أرضية القطار بسبب الزحام، انتهينا من ساعات الرحلة ليعلن مخصوص النوبة وصوله إلى رصيف كوم أمبو لنستيقظ على حلم، مولد نوبى يرتدى الأبيض، سخونة اللقاء تضفى على أشعة الشمس دفئاً غريباً.
44 قرية خرجت عن بكرة أبيها تستقبل أبناءها من القاهرة والإسكندرية على الرصيف، مئات الجلاليب البيضاء الناصعة ووجوه سمراء صاحبت الشمس، أحضان وقبلات ودموع، رطان نوبى كثيف يطن بآذاننا، حركة ودخول وخروج من أبواب القطار خلال الدقائق المتبقية له من ساعات الإفراج ليعود مرة أخرى إلى جراج السكك الحديدية، سيدات يتزين بالجرجار النوبى لاستقبال أبنائهن وأخواتهن.
مشهد لم ولن تعيشه إلا على رصيف النوبة، ووجوه لن يمكنك رؤية تفاصيل الشوق إلا عليها، وجوه ودعت مخصوص النوبة بعد أن أفرغت قلبه من أهل أرض الذهب، فودعوه، وودعناه ونحن فارغا الفاه أمام هذه اللوحة البشرية، التى اقشعر لها جسدى واستسلم لسخونتها زميلى محمد هشام، فانتقلت إلى جسده بحمى الكادر لينتقل من هنا لهناك صعوداً وهبوطاً سعياً وراء ابتسامة اللقاء ودموع الشوق وصخب العودة للنوبة، ولم تخفت حدة الحمى التى أصابت القلم والكاميرا إلا حينما رحلت رائحة الحنة والصندلية عن رصيف كوم أمبو.